الأحد, 27 يوليو 2025 11:46 PM

أحمد نصرة: الشعر بين الغياب، الرغبة، والخسارة في مناخات حموية

أحمد نصرة: الشعر بين الغياب، الرغبة، والخسارة في مناخات حموية

في أحضان الريف الحموي، وتحديدًا في "الشيحة" بمنطقة مصياف، استلهم الفتى أحمد نصرة جماليات الطبيعة لتترسخ في ذاكرته وتتجلى في شعره وإحساسه الإنساني. هذا التأثر المبكر منحه القدرة على التميز بأسلوب إيحائي يضاعف من شفافية الصور، معتمدًا على التكثيف وترك النصوص "على عفويتها" دون تعديل يمسّ اللحظة الشعرية.

بهذه الأدوات الشعرية، قدم أحمد نصرة أعمالًا مثل: "توضأتُ بنبيذ" (2013، دار أرواد)، "يشبهني هذا الموت" (2014، دار الينابيع)، و"أنعم بالعمى" (2016، دار بعل). تحمل نصوصه هموم الإنسان، باحثةً عن عالم يسوده الفرح والحرية، بأسلوب يقاوم التكلف ويؤمن ببساطة التعبير والصدق الشعري القادرين على الوصول إلى القلب دون استعراض، معتمدًا على الإيقاع الداخلي والصورة الشعرية في جوهر النص.

يستخدم نصرة لغة يومية مشبعة بالدلالة، بسيطة وغير متكلفة، لكنها غنية بالإيحاءات، متجنبًا الثرثرة اللفظية أو الصور المجازية الثقيلة، مع الاهتمام بالفكر العالي من خلال التماهي بين اليومي والفلسفي. التصوير يأتي بالاقتراح لا بالتصريح، فالصورة الشعرية لا تفجر المعنى بل تقترحه، تاركةً المجال للمتلقي لملء الفراغ الدلالي من خلال بلاغة الصمت والتكثيف.

نصوصه تستند إلى الإيحاء أكثر من الإخبار، وتعتمد على الاقتصاد اللفظي الذي يخلق فراغًا تأويليًا خصبًا. هذه البلاغة الصامتة تشبه ما يُعرف في النقد بـ"بلاغة الغياب"، أي غياب المجاز الفخم وحضور المجاز الهمسي، فهو لا يلاحق الاستعارات المعقدة أو الصور المذهلة من حيث الشكل، بل يعتمد على مجاز داخلي حميمي يخلق نغمة وجدانية خافتة.

تبحث نصوصه في الوجود الإنساني والقلق الوجودي، وتظهر بمعناها الفلسفي الجاف، لكنها مشبعة بأسئلة الحياة، الوجود، الموت، والانتماء. القصيدة ذاتية في جوهرها، لكنها لا تنغلق على الذات، بل تسائلها وتفككها عبر مرآة الآخر والعالم، من خلال إشاراتها إلى الوطن، الحرب، والنزوح، من منظور إنساني داخلي عميق.

تظهر المناخات العاطفية شبه صوفية أحيانًا، مشوبة بالغياب والرغبة والخسارة. وإذا ما أخذنا أحدث إصداراته نموذجًا، (أنعم بالعمى)، فهو يستدرج القارئ بهذا العنوان اللافت، الذي يحمل تناصًا ومفارقة، ومن ثم نصوص ببنية إيقاعية تكتفي بالإيقاع الداخلي: تكرار، تنغيم لفظي، توالي صوري، مستخدمًا ضمير الـ"أنا" غالبًا، لكن بطريقة غير استعراضية، تشرك القارئ في "الأنا الجمعية"، وهي تتنزه في فضاء مكاني تتكرر إشاراته: الريف، الظل، الجبل، الطريق، لكنها رمزية لا سردية.

الشاعر أحمد نصرة يقف على تخوم الشعر والنثر، ويمتلك خصوصية تقوم على الهدوء البلاغي، والتكثيف العاطفي، والعمق الوجودي. لا يكتب ليدهشك بجمال اللغة، بل ليفتح لك بابًا على ألم إنساني ناعم وهادئ. قصيدته كأنها نفس داخلي مشحون بالمعنى، خالية من الزخرفة، لكنها مشبعة بالضوء الخافت.

من هنا لا يجعلك الشاعر تنتظر طويلاً وأنت تقرأ مجموعته الشعرية "أنعم بالعمى" لتعرف شواغل القول الشعري، وتتعرف على مفردات قاموس القصيدة لديه. فهو منذ البداية يعلن انحيازه لعائلة الشعراء الحزانى، الذين بقوا يتفيؤون برج الخسارة، شعراء لا يعتبرون "الفرح" مهنتهم، ذلك أن "الحزن" يطل من أولى عتبات المجموعة.

تبدو الفعالية الشعرية عند صاحب "أنعم بالعمى" في اللعب على المفارقات، ليصل بها حد التناقض، ذلك أن المفارقة تبدو غاية خواتيم القصيدة، التي يأتي بها كمن يدلق بوجهك دلو ماء بارد. مع ذلك غالبًا ما تشعر بأحمد نصرة كصياد يصيد عصافير المفاجأة التي تحيل القول إلى الشعر العالي.

ولأن صوت الحزن هو الأعلى بين "شخصيات" الشاعر الدرامية، من هنا نتفهم كثرة هذه المفردات التي ينسجها الشاعر في تراكيب تشي هي الأخرى بما يقارب هذا الشعور الإنساني الموجع، فتكثر مفردات الليل، العمى، الموت، الفقد، الخريف.. وغير ذلك من المفردات التي "يستثمرها" الشاعر في غواية شغله على المتضادات الشعرية.

أهمل أحمد نصرة عناوين النصوص، وإنما قام بتوزيع النصوص على صفحات البياض تاركًا لدار مجموعته بابًا وحيدًا ولا نوافذ، باب دار لا تفتح بغير مفتاح وحيد، يغوي بالنعيم، وأي نعيم يرصد له اسم التفضيل "أنعم" في عنوان من كلمتين.

مشاركة المقال: