تعكس خطوة تسيير دورية عسكرية روسية في مدينة القامشلي السورية تحولاً ملحوظاً في التحالفات بمنطقة شمال شرق سوريا. يأتي هذا التحرك الميداني بعد تفاهمات خلال زيارة وزيري الخارجية والدفاع السوريين إلى موسكو، واستبعاد قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي كانت جزءاً من التنسيق الثلاثي في المنطقة.
تحركت الدورية الروسية في مناطق شرق القامشلي بريف محافظة الحسكة، برفقة مروحيتين، في استعراض لافت. تعتبر هذه المرة الأولى التي تظهر فيها تحركات ميدانية روسية علنية منذ سقوط النظام المخلوع، مما يشير إلى تنسيق مباشر مع الحكومة السورية الجديدة، وفق وسائل إعلام محلية.
مع التكتم الروسي المعتاد على التحركات العسكرية، اعتبرت وسائل إعلام أن الخطوة «مؤشراً واضحاً على تغير قواعد الاشتباك والتنسيق الأمني بعد التحولات السياسية في دمشق»، خاصة مع استبعاد قوات «قسد» التي «منعتها القوات الروسية من الوجود أو المرافقة»، مما يدل على تغير قواعد التنسيق على الأرض.
تأتي هذه الخطوة بعد أيام من زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو على رأس وفد رفيع، وانضم إليه وزير الدفاع مرهف أبو قصرة الذي عقد اجتماعاً مطولاً مع نظيره الروسي أندريه بيلوسوف. وركزت المباحثات الروسية السورية على مستقبل العلاقة بين البلدين، وتنسيق المواقف، ومناقشة الأوضاع الأمنية والعسكرية في الجنوب السوري وشمال شرقي سوريا.
أفاد مصدر روسي لـ«الشرق الأوسط» بأن الطرفين توصلا إلى تفاهم حول تنسيق خطوات مشتركة لضمان الالتزام بمبدأ وحدة وسلامة الأراضي السورية، وهو المبدأ الذي تتفق فيه موسكو ودمشق تماماً. ويظهر التحرك الميداني الحالي تطبيقاً للتفاهمات الأولية التي تم التوصل إليها.
أكدت موسكو خلال الأسابيع الماضية أنها تتعامل مع الواقع الجديد في سوريا انطلاقاً من مبدأ ضمان مصالحها «المشروعة». وتسعى موسكو لعدم الظهور بمظهر «الخاسر استراتيجياً» بسبب سقوط نظام الأسد، وتسعى لإقامة توازنات جديدة تحافظ فيها على مكاسبها السابقة، بما في ذلك الوجود العسكري على ضفاف البحر المتوسط. وتدرك موسكو أنه يجب مراجعة الاتفاقات السابقة، بما في ذلك طبيعة هذا الوجود ومدته الزمنية ورقعته الجغرافية.
يرى خبراء روس أن أحد الخيارات المطروحة هو الاكتفاء بوجود عسكري روسي في قاعدة طرطوس البحرية، استناداً إلى اتفاق قديم مبرم في عام 1972، مع إعادة النظر بوضع قاعدة «حميميم» الجوية التي نقلت موسكو منها بالفعل العتاد الثقيل إلى مناطق في شمال شرقي سوريا.
تبدي موسكو استعداداً لدعم السلطات السورية في ملفات إعادة الإعمار جزئياً، وفي ملفات سياسية مهمة. ونقل العتاد الثقيل إلى مطار القامشلي يندرج في إطار إعادة تموضع روسيا العسكري في سوريا، مما يهيئ الظروف لتفاهمات مستقبلية مع دمشق حول دور ووجود هذه القوات في المنطقة. وجرت التحركات الروسية بتنسيق كامل مع تركيا، وبغض نظر من جانب الولايات المتحدة، ولا تحمل أبعاداً تهدد وحدة وسيادة سوريا.
يرى البعض أن الوجود الروسي قد يحظى بموافقة سورية مستقبلية كونه ضامناً استراتيجياً لعدم تهديد وحدة سوريا، وبديلاً محتملاً عن الوجود في «حميميم» لاحقاً. وكان الجيش الأميركي قد سحب قواته بالكامل من قاعدة «تل بيدر» العسكرية شمال محافظة الحسكة.
تنطلق موسكو من حاجة دمشق إلى إقامة توازن في العلاقات الخارجية يساعدها على مواجهة التوغل الإسرائيلي والتدخلات الخارجية، وكذلك في مواجهة النزعات الانفصالية في مناطق شمال شرقي سوريا. ويمنح هذا الوجود الروسي هوية وأهدافاً مختلفة في ظل التفاهم على الالتزام بوحدة وسلامة الأراضي السورية، وبما يضمن مصالح الطرفين الروسي والسوري.
قال محمود الحمزة، الخبير السوري المطلع على الشأن الروسي، إن إعادة التموضع الروسي يلبي مصالح وأهداف الطرفين، واعتبر أن تسيير الدورية الروسية في القامشلي «مثير للغاية لكنه منطقي». وأشار إلى أن خطوة نقل العتاد إلى مطار القامشلي وتحضيرها ليغدو قاعدة جوية متكاملة، شكلت استجابة للتطورات التي شهدتها سوريا.
وأضاف الحمزة أن الجديد بعد زيارة الشيباني وأبو قصرة، أنه «يبدو أن الحكومة السورية نجحت في إحداث اختراق في الموقف الروسي من خلال الاتفاق على إبقاء القواعد العسكرية، مع احتمال أن تلعب روسيا دوراً في الجنوب السوري من خلال إنشاء نقاط مراقبة في القنيطرة، مثلاً، مما يحد من التوغلات الإسرائيلية».
وزاد أن التفاهمات قد تكون شملت احتمالاً لتحرك روسي في السويداء من خلال جهود وساطة، وأيضاً «في القامشلي وشرق الفرات هذه يمكن أن تكون الساحة الرئيسية للدور الروسي الجديد من خلال التنسيق الروسي مع الحكومة ومع العشائر لفرض حل ما على (قسد)».
تنطلق موسكو من حاجة سوريا الجديدة إلى «نظام دولي جديد يحدِث توازناً بعد الفراغات التي تركها الموقف الغربي». ويكتسب هذا الملف أبعاداً مهمة في إطار مساعي التنسيق الجديدة بين موسكو ودمشق، خصوصاً أن روسيا تكرر فكرة استعدادها لتقديم الدعم السياسي المطلوب بقوة حالياً لدمشق. وروسيا ستتولى رئاسة مجلس الأمن في أكتوبر المقبل، مما يمنح فرصة لطرح ملفات للمناقشة في المجلس، بينها مبدأ وحدة وسلامة سوريا وضرورة وقف الاعتداءات والتدخلات الخارجية فيها.
يشير الالتزام الروسي بهذا المبدأ إلى المصالح الروسية في سوريا. والمنطق الروسي يقوم على رفض فكرة وجود قاعدة عسكرية روسية في منطقة أو كيان لا يحظى باعتراف دولي ومعزول وغير آمن. وتفضل موسكو أن يكون وجودها في إطار اتفاقات محدثة مع سوريا الجديدة الموحدة، وترى أن مصالحها تنطلق من إقامة علاقات جيدة مع دمشق.