الإثنين, 6 أكتوبر 2025 12:54 PM

تحويلات المغتربين السوريين: من دعم الاستهلاك إلى محرك للاستثمار

تحويلات المغتربين السوريين: من دعم الاستهلاك إلى محرك للاستثمار

ملهم جزماتي: لطالما شكلت تحويلات المغتربين السوريين، على مدار العقد الماضي، شريان حياة لملايين الأسر داخل سوريا، ومورداً حيوياً للاقتصاد الذي يعاني من الإجهاد. هذه التدفقات المالية، التي تقدرها مصادر اقتصادية بما يتراوح بين 7 إلى 8 ملايين دولار يومياً، تحمل في طياتها إمكانات كبيرة تتجاوز مجرد الاستهلاك. وتشير التقديرات إلى أن الحجم السنوي لهذه التحويلات يتراوح بين 2 إلى 2.5 مليار دولار، في حين أن آخر رقم رسمي سجله البنك الدولي في عام 2010 بلغ 1.62 مليار دولار، مع عدم وجود بيانات رسمية للسنوات اللاحقة.

هذا التباين الكبير، والفجوة في المعلومات، يسلطان الضوء على حقيقة أن جزءاً كبيراً من هذه الأموال يتدفق عبر قنوات غير رسمية، مع الأخذ في الاعتبار الزيادة في عدد السوريين في الخارج نتيجة للحرب المستمرة منذ أربعة عشر عاماً، مما يحرم الاقتصاد من الاستفادة الكاملة من هذه السيولة الحيوية. وهنا يطرح السؤال الأساسي نفسه: كيف يمكن تحويل هذه الأموال من مسار استهلاكي قصير الأجل إلى رافعة استثمارية طويلة الأمد تساهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري؟

واقع التحويلات.. شريان حياة في اقتصاد منهك

في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها السوريون، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 90% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وأن 66% يعانون من الفقر المدقع، أصبحت التحويلات المالية القادمة من الخارج المصدر الرئيسي للدخل لشريحة واسعة من المجتمع. هذه الأموال تذهب مباشرة لتغطية النفقات الأساسية من غذاء ودواء وإيجارات، وتساهم في التخفيف من حدة الأزمة الإنسانية. وقد أكد تقرير للبنك الدولي صدر في أيار 2024 على هذا الدور الحيوي، مشيراً إلى أن تلقي التحويلات يرتبط بانخفاض احتمالية الوقوع في الفقر المدقع بنسبة 12 نقطة مئوية.

على المستوى الاقتصادي الكلي، تلعب هذه التحويلات دوراً لا يمكن إغفاله في دعم استقرار سعر صرف الليرة السورية نسبياً، كونها المصدر الأهم للعملة الصعبة في البلاد بعد تراجع القطاعات الإنتاجية والصادرات. وقد وصف حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، هذه الأموال بأنها "شريان حياة" للاقتصاد الوطني. ولكن على الرغم من أهميتها الاجتماعية والاقتصادية، فإن الأثر التنموي لهذه التحويلات يبقى محدوداً. إذ تشير التقديرات إلى أن ما يقارب 80% من هذه الأموال يذهب مباشرة إلى الاستهلاك الفوري، مما يحد من تأثيرها في تحفيز الدورة الإنتاجية أو خلق فرص عمل جديدة.

هذا النمط يعزز ما يمكن تسميته بـ "اقتصاد البقاء"، الذي يضمن استمرارية الحياة اليومية، لكنه لا يبني أساساً متيناً لاقتصاد قادر على النمو والتطور بشكل مستدام. ومن هنا، فإن التحدي الأكبر يكمن في ابتكار السبل الكفيلة بتحويل جزء من هذه السيولة من مجرد إنفاق استهلاكي إلى وقود يدفع عجلة الاستثمار والتنمية.

بناء الثقة المفقودة.. حجر الزاوية لاستقطاب الأموال

تعاني العلاقة بين المغتربين السوريين والنظام المصرفي المحلي من أزمة ثقة عميقة ومتجذرة، تراكمت على مدى سنوات طويلة. فتجارب مثل فقدان الودائع، تجميد الحسابات بشكل تعسفي، والانهيار المستمر لقيمة الليرة السورية، والأهم الخوف من أن تطالهم تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على الجهاز المصرفي السوري وكل من يتعامل معه، كلها عوامل دفعت السوريين في الخارج إلى تجنب القنوات الرسمية واللجوء إلى السوق الموازية لإرسال أموالهم. وبهذا، يخسر الاقتصاد السوري سيولة ضخمة كان من الممكن أن تضخ في شرايينه لو توفرت بيئة مصرفية آمنة وموثوقة.

إن استعادة هذه الثقة المفقودة تتطلب حزمة من الإصلاحات الهيكلية التي تبدأ بالشفافية والحوكمة. نشر تقارير مالية دورية للمصارف، وتطبيق معايير الحوكمة الدولية، وتوفير آليات مستقلة لحماية المودعين، هي إجراءات أساسية يجب أن تسبق أي محاولة جادة لاستقطاب أموال المغتربين. كما أن وجود طرف ثالث مستقل، مثل شركات تدقيق دولية، يمكن أن يمنح المستثمرين في الخارج شعوراً أكبر بالأمان ويحد من المخاوف المرتبطة بسوء الإدارة أو الفساد.

على الصعيد القانوني، تبرز الحاجة إلى سن قوانين واضحة وصريحة تمنع التجميد التعسفي للحسابات، وتضمن حرية السحب والإيداع بالعملات الأجنبية. كما أن إنشاء محاكم تجارية متخصصة للفصل السريع في النزاعات المصرفية، وتحديث البنية التحتية التكنولوجية للمصارف لتوفير منصات رقمية آمنة وسهلة الاستخدام، هي خطوات لا غنى عنها لتعزيز جاذبية القطاع المصرفي السوري. فالمغترب يحتاج إلى الشعور بأن أمواله ليست فقط آمنة، بل وأنه قادر على إدارتها والوصول إليها من أي مكان في العالم بسهولة ويسر.

أدوات مالية مبتكرة.. لتحويل الحوالات إلى استثمارات

بناء الثقة وحده لا يكفي، بل يجب أن يترافق مع توفير أدوات مالية مبتكرة وجذابة قادرة على استقطاب مدخرات المغتربين وتوجيهها نحو استثمارات منتجة. وتبرز "سندات المغتربين" كواحدة من أبرز هذه الأدوات، وهي أوراق دين تصدرها الحكومة بعائد تنافسي بالدولار لتمويل مشاريع استراتيجية في قطاعات حيوية مثل الطاقة، البنية التحتية، أو الزراعة.

تقدم التجارب الدولية دروسًا قيّمة في هذا المجال. ففي عام 2014، طرحت مصر سندات لتمويل توسيع قناة السويس، لكن مساهمة المغتربين لم تتجاوز 1% من الإجمالي بسبب ضعف الثقة وغياب الضمانات الكافية. أما إثيوبيا، فقد نجحت نسبيًا في استخدام سندات المغتربين لتمويل سد النهضة بعد انسحاب المؤسسات المالية الدولية، حيث جمعت ملايين الدولارات مستفيدة من الدافع الوطني القوي لدى المغتربين. وفي عام 2017، أصدرت نيجيريا سندات بقيمة 300 مليون دولار بعد تسجيلها لدى هيئة الأوراق المالية الأمريكية، مما عزز مصداقيتها. هذه التجارب تؤكد أن نجاح مثل هذه المبادرات يتطلب هيكلة سليمة، شفافية عالية، عوائد مجزية، ضمانات موثوقة، وربط السندات بمشاريع وطنية ذات أثر ملموس.

إلى جانب السندات، يمكن إنشاء "صناديق استثمارية" موجهة للمغتربين تركز على قطاعات واعدة مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، أو العقارات. هذه الصناديق تتيح للمغتربين الاستثمار بمبالغ صغيرة وتنويع محافظهم الاستثمارية، مع إمكانية الاستفادة من إدارة مهنية متخصصة. وفي هذا السياق، يمكن لصندوق التنمية السوري، الذي تمكن من جمع أكثر من 80 مليون دولار خلال أسابيع من إطلاقه، أن يلعب دورًا محوريًا كمنصة مركزية لتطوير وإدارة مثل هذه المبادرات.

الطريق نحو التحول

لا يمكن لهذه المبادرات أن تنجح بمعزل عن استقرار اقتصادي ونقدي شامل. فالمغترب، مثل أي مستثمر آخر، لا يبحث فقط عن العوائد، بل عن الثقة باستقرار بيئة الاستثمار. هذا يتطلب إصلاحات هيكلية عميقة، وتبني سياسات مالية ونقدية متسقة، والأهم معالجة ملف العقوبات الدولية الذي يبقى العقبة الأكبر أمام أي تحول جذري في القطاع المصرفي السوري.

إن تحويلات المغتربين السوريين ليست مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل هي طاقة كامنة قادرة على إحداث فارق حقيقي في مستقبل سوريا الاقتصادي. لكن تفعيل هذه الطاقة يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تجمع بين الإصلاح المصرفي الجذري، وبناء جسور الثقة مع المغتربين، وابتكار أدوات مالية واستثمارية تتناسب مع تطلعاتهم وتضمن أمان مدخراتهم. إن نجاح هذه المهمة سيحول المغترب السوري من مجرد "ممول" لاحتياجات أسرته، إلى "شريك" فاعل وأساسي في بناء وتنمية وطنه.

مشاركة المقال: