الإثنين, 10 نوفمبر 2025 01:23 AM

حلول ممكنة لتغير المناخ في سوريا: نحو عدالة بيئية وزراعة مستدامة

حلول ممكنة لتغير المناخ في سوريا: نحو عدالة بيئية وزراعة مستدامة

في الجزء الأول من هذا المقال، الذي كتبته لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي، تناولنا الإطار النظري لتغير المناخ كظاهرة اقتصادية سياسية مرتبطة بصعود الرأسمالية الحديثة والنهج الاستعماري، وقدمنا لمحة عن تجليات تغير المناخ في سوريا، والسياسات الاقتصادية المتبعة منذ السبعينيات حتى اليوم. في هذا الجزء، سنتناول بعض الحلول الممكنة، ونستهلها بضرورة التحول الجذري في نهج التفكير.

العدالة البيئية والمناخية كمنطلق

العدالة البيئية، بإطارها الليبرالي، يمكن تعريفها بـ”التوزيع العادل للأضرار والمنافع البيئية من خلال المشاركة الفعالة لأفراد المجتمع باعتبارهم أصحاب مصلحة، حيث يتم الاعتراف بقراراتهم والعمل بها”. أما في إطارها النقدي، فتذهب إلى ما هو أبعد من السياسات المحلية وعمل الدولة، وتقدم فهمًا نسويًا تقاطعيًا يدرك تعددية السياقات والاحتياجات، وتاريخية دور الاستعمار ورأس المال في الدمار البيئي وتغير المناخ. من هنا ينطلق إطار العدالة المناخية، ومفهومي الدَيّن البيئي والمناخي، اللذين يجب من خلالهما على الجهة التي استفادت اقتصاديًا، وتسببت بالدمار والأذى، أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية عبر تقديم الاعتراف بالجرم البيئي أو المناخي، والسياسي الاجتماعي، وتوفير برامج جبر ضرر لأصحاب الأرض والمصلحة.

الزراعة البيئية

ليست “الزراعة البيئية” (Agroecology) مجرد تطبيق تقني لمبادئ الحفاظ على بيئة حيوية وصحية في سياق النظم الزراعية ودورة إنتاج الغذاء، بل هي أيضًا صيرورة اجتماعية وسياسية أخلاقية لإعادة بناء الإنسان والمجتمعات، واستعادة العلاقات التكافلية (symbiosis) بين الكائنات الحية، وبضمنها الإنسان، وبين النُظم البيولوجية المحلية الأصيلة (local indigenous biological systems)، وذلك عبر هيكلية أفقية لعلاقات القوة، وليس عبر هرمية الإخضاع والاستنزاف للطبيعة والإنسان الواقعة اليوم.

من الناحية العملية، تَعتبِر “الزراعة البيئية” أن النموذج الصناعي- التجاري الأكثر رواجًا، والذي يطلق عليه الزراعة الأحادية (monoculture)، ممارسة غير مستدامة بيئيًا أو اجتماعيًا، تقوم على تقنية زراعة وحصاد محصول واحد على مساحة أرض واسعة، وأحيانًا، لسنوات متتالية، بهدف تبسيط وتعميم العملية الإنتاجية، وتعظيم الربح المالي، لكنها في المقابل، تُضعف خصوبة التربة وقدرتها على مقاومة الآفات والأمراض، وتزيد من الاعتماد على الأسمدة الكيماوية، والمبيدات الحشرية عالية المخاطر، التي تؤذي البيئة، وصحة الأفراد من مزارعين ومزارعات ومستهلكين ومستهلكات، وتُثقِل العبء الاقتصادي على المجتمعات والدولة على المدى الطويل لأجل العلاج أو التكيف مع الضرر الحاصل، ناهيك بزيادة الحساسية المناخية للمحاصيل، حيث تصبح النباتات أقل قدرة على التكيف مع الجفاف، والتفاوت الحاد في درجات الحرارة، وعدم انتظام هطول الأمطار، وغيرها من الظواهر التي تتعاظم بسبب تغير المناخ، وهو أمر بالغ الأهمية والآنية في مناطق مثل سوريا، بالإضافة إلى أن الزراعة الأحادية تُقيد المزارعين، من النساء والرجال، بتقلبات السوق، وبمصدر دخل أحادي، مما يزيد من هشاشة المجتمعات المحلية، ويحد من أمنها الغذائي، واكتفائها الذاتي.

وكي يتحول النظام الغذائي إلى نظام عادل ومستدام، تشجع الزراعة البيئية على ممارسة الزراعة المتعددة (عدة محاصيل)، وخصوصًا الزراعة البينية (intercropping) أو المرافقة، كمثل زراعة ما يُعرف بـ”الأخوات الثلاث“، الذرة والفاصولياء واليقطين، جنبًا إلى جنب، وهي ممارسة زراعية أصلية في شمالي أمريكا، حيث توفر الذرة شبكة سيقان تتسلق عليها الفاصولياء، وتثبت الفاصولياء النيتروجين في التربة لتغذية شقيقتيها، بينما يتمدد اليقطين على الأرض ليظلل التربة، ويعزز من قدرتها على الاحتفاظ بالرطوبة، ويحد من نمو الأعشاب الضارة أو غير المرغوب بها عبر أوراقه الكبيرة، مما يخلق علاقة تكافلية ونظامًا زراعيًا عالي الإنتاجية والاستدامة.

ومن المبادئ التقنية للزراعة البيئية، نذكر أيضًا إعادة تدوير الموارد المحلية، للحفاظ على صحة التربة، وتنوعها الجيني والحيوي، كإنتاج السماد العضوي (compost) من المُخلفات العضوية بدل رميها كنفايات في مكبات، أو حرقها، واستخدام بقايا النباتات الحولية، أو بقايا تقليم الأشجار وسعف النخيل والأوراق الجافة، كغطاء للتربة (mulching)، والذي يفيد في حماية سطحها من التعرية، والحفاظ على رطوبتها، وهو تقنية ضرورية في المناطق الجافة، وفي ظروف شح المياه، وكذلك، تأتي تقنية الري بالتنقيط عند الجذور، والري غير المنتظم، واختيار زراعة المحاصيل غير الشرهة للمياه.

وعن الأبعاد الاجتماعية للزراعة البيئية، نذكر التشاركية والتكافل، اللتين يمكن أن تتجليا في التعاونيات، وبنوك البذور الأصيلة بإدارة مجتمعاتها المحلية، وشبكات الدعم المتبادل (mutual aid)، وهي مفهوم للتعاون والمساعدة الطوعية القاعدية بين أفراد المجتمع، القائمة على التضامن لا على الصدقة والتبرع، بالإضافة إلى الحدائق المجتمعية (communal gardens)، وهي مساحات خضراء مشاع أو ذات ملكية مشتركة، يخططها ويزرعها ويديرها ويصونها جيران منطقة ما بشكل جماعي، وهي ممارسات من شأنها المساهمة في التحول نحو نهج السيادة الغذائية في سوريا عوضًا عن الاتكال على سلاسل التوريد الطويلة، واحتكار الشركات وهياكل الهيمنة.

وفي هذا الإطار، تأتي مناهضة التمييز ضد النساء بتنوعهن كأمر رئيس، فإن تأنيث الفقر، وآثار تغير المناخ، والدمار البيئي على النساء والفتيات والفئات المهمشة، يرتبط ارتباطًا عضويًا بالنظام الأبوي، وما يحتمه من أدوار جندرية نمطية، وتقييم ما يؤنث منها بقيمة دنيا، وتذكير، أي من المذكر، للقدرة وصنع القرار والاستحقاق. مما لا شك فيه أن النساء بالرغم من التمييز والمظالم الهيكلية، تقود وتشارك في مبادرات ملهمة في الزراعة البيئية وشبكات الدعم المتبادل حول العالم، يوظفن فيها المعارف المحلية والأصيلة البيئية، المتداولة شفاهة، والمتوارثة عبر الأجيال، مع التقنيات الحديثة، لاستعادة سيادة مجتمعاتهن الغذائية، كجمعية “ديكان” النسائية في الهند، ومبادرات حدائق نيروبي المجتمعية في المناطق الحضرية.

السيادة الغذائية

يتمحور البعد المركزي للسيادة الغذائية في التحكم الكامل بالدورة الزراعية، بدءًا من المعرفة، والقرارات، والبذور، والعمالة، والفائض، ففي ظل الأزمات المتراكمة في سوريا، وتفكك المجتمعات، وقلة الموارد، وتراجع الدعم الرسمي، وتأخر إعادة الإعمار وجبر الضرر التحولي، فإن التحول نحو الزراعة البيئية على نطاق قُطري، وتبني الاقتصاد الدائري، ومقاومة خصخصة وأمولة الممتلكات والمساحات العامة والأراضي المشاع، وذلك من أجل تشجيع مبادرات قاعدية كالحدائق المجتمعية، وليس بيعها لاستثمارات احتكارية تعمق الفجوات الطبقية والمظالم الهيكلية، وهي خيارات استراتيجية من نماذج الاقتصاد غير التقليدية (heterodox economics) الموصى بها لمقاومة تغير المناخ وتحقيق العدالة البيئية، ومن شأن هذه الاستراتيجيات المساهمة في إعادة بناء العلاقات الاجتماعية، وامتلاك المجتمعات المحلية لوكالتها وقدرتها على الكفاف، والتعافي وتعزيز السلم الأهلي من خلال مسارات عمل جمعي، وتكافل اجتماعي، تركز على العدالة والعيش الكريم، لا على الانعزال والعجز والنقص.

مشاركة المقال: