محمد كاخي | سدرة الحريري | رغد عثمان | لمى دياب - بعد أيام قليلة (في 21 أيلول الحالي)، يبدأ العام الدراسي الجديد في سوريا، وسط أزمة تعليمية هي الأعقد منذ بداية الحرب. تُظهر إحصائيات وزارة التربية وجود حوالي 19,400 مدرسة، منها 7,900 مدرسة مدمرة كليًا أو جزئيًا. تفاقمت ظاهرة التسرب، حيث تشير الأرقام إلى وجود نحو 2.4 مليون طفل متسرب خلال السنوات الماضية، بينما يدرس حاليًا نحو 4.2 مليون طفل داخل سوريا. من المتوقع عودة 1.5 مليون طالب من الخارج، مما يضع تحديات إضافية على الوزارة لتأمين مقاعد دراسية وخطط دمج مناسبة.
تتفاقم الصعوبات بسبب الأوضاع القانونية المختلفة للمعلمين، وتعدد المناهج، وصعوبة دمج الطلاب العائدين من دول مثل تركيا وألمانيا. يتطلب إصلاح قطاع التعليم مبالغ ضخمة غير متوفرة للحكومة، بينما تواجه جهود جمع التبرعات من الأمم المتحدة صعوبات، حيث تم تأمين 25.1 مليون دولار فقط من أصل 133.9 مليون دولار هذا العام، بفجوة تمويلية تبلغ 108.7 مليون دولار.
يأتي العام الدراسي الجديد في ظل صعوبات تواجهها الأسر السورية في تأمين الاحتياجات اليومية، نتيجة لانخفاض الأجور وارتفاع سعر الصرف، وتسريح الموظفين، وتأخر الرواتب في القطاعات العامة والخاصة. على الرغم من محاولات وزارة التربية لإطلاق خطط إسعافية ومبادرات لإعادة إعمار المدارس وتوحيد المناهج وتوفير الكوادر التعليمية، إلا أن التحديات تبقى أكبر من قدرة الإجراءات الرسمية.
تسعى عنب بلدي في هذا الملف إلى تسليط الضوء على واقع التعليم في سوريا مع بداية العام الدراسي 2025-2026، من خلال استعراض الأرقام الرسمية والشهادات الميدانية، ومناقشة خطط الوزارة مع الخبراء والفاعلين في القطاع، لإبراز حجم الأزمة وسبل تجاوزها.
التمويل غير كافٍ.. مدارس مدمرة وطلاب خارج التعليم
في 9 حزيران الماضي، صرح وزير التربية والتعليم، محمد تركو، بأن حوالي 40% من المدارس السورية مدمرة كليًا أو جزئيًا، وأن نحو 7215 مدرسة تحتاج إلى ترميم عاجل. وأضاف أن أكثر من أربعة ملايين طفل في سوريا بحاجة إلى التعليم، بينهم نحو 2.4 مليون طفل خارج العملية التعليمية.
تشير تقديرات الأمم المتحدة، في تقرير صدر في 2 تموز الماضي، إلى أن ما بين 40 و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عامًا باتوا خارج النظام التعليمي. وفي محافظة السويداء، تشهد المدارس انقطاعًا شبه كامل للعملية التعليمية، نتيجة غياب الكوادر التدريسية بعد تهجير أعداد كبيرة من المعلمين، إضافة إلى تخصيص معظم المدارس كمراكز لاستضافة العائلات النازحة أو المتضررة جراء احتراق منازلها، ما فاقم من تعطّل العملية التعليمية في المحافظة.
أعلنت وزارة التربية، في 17 آب الماضي، إطلاق المبادرة الوطنية "أعيدوا لي مدرستي"، في إطار خطة استراتيجية تهدف إلى إعادة تأهيل المدارس المتضررة وضمان حق التعليم للأطفال السوريين. وكشف وزير التربية والتعليم أن الوزارة وضعت خطة إسعافية وأخرى استراتيجية لتأمين مقعد مدرسي لكل طفل. وتشمل الخطة الإسعافية إنشاء مدرسة واحدة على الأقل في كل منطقة مدمرة، إلى جانب استثمارات واسعة وجهود مشتركة مع المنظمات الدولية لإعادة بناء البنية التحتية التعليمية.
وكانت الوزارة أعلنت، في 22 تموز الماضي، عن خطة لترميم 279 مدرسة موزعة على المحافظات السورية، تشمل الأضرار المتوسطة والثقيلة.
طفلة تجلس أمام مدرستها المدمرة في سراقب – 3 تموز 2025 (سونيا العلي /DW)
ماذا عن تمويل القطاع التعليمي؟
أكد وزير المالية، محمد يسر برنية، خلال فعالية إطلاق حملة "أعيدوا لي مدرستي"، أن القطاعات الأكثر استحواذًا على الإنفاق في موازنة الدولة تشمل الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية. وأوضح أنه تمت إضافة زيادة مخصصة لقطاع التربية بهدف توفير بيئة تعليمية مريحة.
وأضاف الوزير أن الشراكة ضرورية في عملية ترميم المدارس، لافتًا إلى وجود إعفاء ضريبي يصل إلى 20% في حال دعم هذا القطاع. وأشار إلى أن الحكومة حصلت على وعود من صندوق التنمية السعودي لدعم ترميم المدارس المدمرة، مع إمكانية اللجوء إلى القروض في حال الحاجة إلى تمويل إضافي لإصلاح المدارس وبناء العملية التعليمية.
واقع مدارس السويداء
بدوره، أجرى محافظ السويداء، مصطفى البكور، برفقة وفد من وزارة التربية، زيارة تفقدية، في 25 آب الماضي، إلى مدارس ريف السويداء الغربي الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، للوقوف على احتياجاتها وتجهيزها قبيل انطلاق العام الدراسي الجديد 2025-2026، بهدف توفير بيئة تعليمية للطلاب. في المقابل، لم تتضح بعد آلية التعامل مع المدارس الأخرى داخل المحافظة، وكيفية تنظيم عملها وضمان رواتب الكوادر التعليمية. وحاولت عنب بلدي التواصل مع المعنيين للحصول على تفاصيل إضافية بهذا الشأن، إلا أنها لم تتلقَّ ردًا.
40% من المدارس السورية مدمرة كليًا أو جزئيًا، وتحتاج نحو 7215 مدرسة إلى ترميم عاجل.
محمد تركو وزير التربية والتعليم
بين 40 و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عامًا باتوا خارج النظام التعليمي.
تقديرات الأمم المتحدة – 2 تموز 2025
المستلزمات المدرسية.. الواقع الاقتصادي يضغط الأهالي
منذ بدء عمليات التضخم وتدهور الأوضاع المعيشية في سوريا، بات ارتفاع تكاليف المستلزمات المدرسية، من ملابس وقرطاسية، يشكل عبئًا ثقيلًا على كاهل الأهالي مع بداية كل عام دراسي. وخلال جولة قامت بها مراسلة عنب بلدي لرصد أسعار المستلزمات المدرسية في أسواق دمشق وريفها، تبيّن أن أسعار الدفاتر المدرسية تبدأ من 2000 إلى 17,000 ليرة سورية، والأقلام من 1000 إلى 3000 ليرة سورية، بينما المبراة والممحاة يبلغ سعر كل منهما 500 ليرة سورية، أما المقالم المدرسية فيتراوح سعرها بين 25,000 و35,000 ليرة سورية.
وبالانتقال إلى أسعار الحقائب المدرسية فهي تبدأ من 50,000 ليرة سورية، وتختلف الأسعار بحسب حجم الحقيبة وشكلها، وتصل إلى 200,000 ألف ليرة سورية. وبالنسبة لأسعار الملابس المدرسية، يتراوح سعر "المريول" المدرسي للمرحلة الأساسية (الابتدائي) بين 50,000 و200,000 ليرة سورية، أما البنطال والقميص للمرحلتين الإعدادية والثانوية فيتراوح سعره بين 90,000 و150,000 ليرة سورية، وتختلف الأسعار بحسب نوعية القماش ومصدره (مستورد أو محلي) و"الموديل"، فهذه العوامل تسهم في رفع سعر المنتج النهائي على الأهالي.
تشير الأرقام السابقة إلى أن تجهيز طالب واحد للمرحلة الابتدائية، بأرخص المستلزمات المتوفرة في السوق، يكلف الأسرة حوالي 150,000 ألف ليرة سورية تقريبًا، بينما ترتفع التكلفة في حالة طالب المرحلة الإعدادية أو الثانوية لنحو 250,000 ألف ليرة سورية، لاختلاف الاحتياجات. الأهالي الذين تحدثوا لعنب بلدي، قالوا إنه توجد عروض في مختلف المحال والمكتبات ولكن تبقى الأسعار مرتفعة، ومختلفة حسب الجودة، ويشتري الأهالي بحسب قدرتهم المادية.
وسام عابدين، صاحب محل تجاري في دمشق، أوضح لعنب بلدي، أن أسعار الملابس المدرسية لم تتغير بفارق كبير، ولكن الوضع الاقتصادي صعب، مشيرًا إلى أن "الأسواق تشهد حالة من الركود في البيع والشراء، والموسم المدرسي يحرك الأسواق قليلًا، فالأهالي يشترون الأساسيات".
لا رقابة على الأسعار
تشكل العودة إلى المدارس عبئًا ثقيلًا على 90% من الأهالي، من ناحية القرطاسية والحقائب والأحذية والألبسة المدرسية، بحسب ما قاله أمين سر جمعية حماية المستهلك، عبد الرزاق حبزة، لعنب بلدي. واستند حبزة إلى جولة قام بها في أسواق دمشق لرصد أسعار المستلزمات المدرسية، وقال، "يوجد ارتفاع في أسعار الحقائب والأحذية المدرسية، بسبب البضائع المستوردة".
وتابع حبزة أن الأشكال المختلفة و"الموديلات" للحقائب تلعب دورًا في الأسعار، فكل الرسوم والزخارف تكلفتها قليلة على المصنع وأرباحها كبيرة، مشيرًا إلى أن "انخفاض سعر الصرف سابقًا لم يشمل المواد الأولية الداخلة في التصنيع في الحقائب والأحذية". وكان لتوقف التصدير خلال الفترة السابقة للجلديات انعكاس أدى إلى طرح كبير للمواد في الأسواق، إذ انخفضت الأسعار، لكنها عاودت الارتفاع مع بداية الموسم المدرسي، وسط إقبال من الأهالي على شراء هذه المستلزمات، وفق حبزة.
توقف التصدير خلال الفترة السابقة للجلديات أدى إلى طرح كبير للمواد في الأسواق، إذ انخفضت الأسعار، لكنها عاودت الارتفاع مع بداية الموسم المدرسي، وسط إقبال من الأهالي على شراء هذه المستلزمات.
عبد الرزاق حبزة أمين سر جمعية حماية المستهلك
ولفت إلى أنه لا توجد تسعيرة وبيان تكلفة كالسابق بسبب التوجه إلى السوق الحر، وأنه "لا يوجد تنافس شريف بين التجار والمصنعين". وتقتصر الرقابة حاليًا على الجودة والإعلان عن سعر المنتج، والأخير هو حر وفق المنافسة بين المصنّعين، وفق حبزة.
وطالب أمين سر جمعية حماية المستهلك بأن يكون هناك تدخل من الحكومة، وذلك من خلال توظيف الشركات الموجودة بقطاع الجلديات بالتعاون مع القطاع الخاص، لإعادة العمل فيها للمساهمة في تخفيف الأعباء على المستهلك، لأن الأسعار ستكون أقل من المستوردة.
لماذا ارتفعت الأسعار
يرى نائب عميد كلية الاقتصاد للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب في جامعة "حماة"، الدكتور عبد الرحمن محمد، في حديث إلى عنب بلدي، أن ارتفاع أسعار الملابس المدرسية والقرطاسية يعود إلى عدة عوامل منها:
- انخفاض قيمة الليرة السورية، ما أدى إلى زيادة تكلفة الاستيراد، وانعكس على أسعار السلع المستوردة، بما في ذلك المستلزمات المدرسية.
- ارتفاع تكاليف النقل سواء بسبب ارتفاع أسعار الوقود أو صعوبة النقل داخل البلاد، فأصبحت تكاليف الشحن تضيف عبئًا إلى الأسعار.
- زيادة الطلب الموسمي، فمع بداية العام الدراسي، يرتفع الطلب بشكل كبير على الملابس والقرطاسية، ما يدفع بعض التجار إلى رفع الأسعار استغلالًا لهذا الموسم.
- الاعتماد الكبير على السلع المستوردة بدلًا من الإنتاج المحلي، ما يزيد من تأثر الأسعار بالتغيرات العالمية.
- استغلال بعض التجار للظروف الاقتصادية وغياب الرقابة الفعالة يؤدي إلى رفع الأسعار بشكل غير مبرر.
ضبط الأسعار مسؤولية الجميع
حول الإجراءات التي من الممكن أن تتخذها الحكومة لتخفيف العبء عن المواطنين، يرى عميد كلية الاقتصاد للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب في جامعة "حماة"، عبد الرحمن محمد، أن ذلك ممكن من خلال تشجيع الصناعات المحلية، لتوفير بدائل بأسعار مقبولة، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، إضافة إلى تخفيض الضرائب على مستوردي ومصنعي المستلزمات المدرسية لتقليل التكاليف النهائية على المستهلك.
كما يمكن تنظيم معارض مدرسية موسمية لبيع المستلزمات بأسعار منخفضة، بالتعاون مع القطاع الخاص، إضافة إلى توفيرها بأسعار مدعومة من خلال الجمعيات التعاونية أو المنافذ الحكومية، وفق محمد. وتابع أن من الممكن توزيع القرطاسية والملابس المدرسية مجانًا أو بأسعار رمزية على الأسر ذات الدخل المحدود.
وأشار إلى أن معالجة ارتفاع الأسعار وضبط الأسواق ليست مسؤولية حكومية فقط، بل هي مسؤولية مشتركة تتطلب وعيًا مجتمعيًا وتعاونًا بين جميع الأطراف، لأن التعليم هو الاستثمار الأهم في مستقبل الأجيال، ويجب أن يكون متاحًا للجميع دون أن يشكل عبئًا على الأسر.
خطوات لمنع التلاعب
يجب على الحكومة، بحسب عميد كلية الاقتصاد للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب في جامعة حماة، اتباع الخطوات التالية لضبط الأسواق ومنع التلاعب بالأسعار:
- تشديد الرقابة: عبر زيادة الحملات التفتيشية على الأسواق لضمان عدم استغلال التجار للمستهلكين.
- تحديد سقف للأسعار: من خلال وضع حدود أعلى لأسعار المستلزمات المدرسية، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين.
- تعزيز الشفافية: إنشاء نظام إلكتروني لمتابعة حركة السلع من المورد إلى المستهلك، ما يمنع التلاعب.
- تشجيع المنافسة: دعم دخول المزيد من التجار إلى السوق لتقليل الاحتكار وخفض الأسعار.
- التوعية المجتمعية: توعية المواطنين بحقوقهم وتشجيعهم على الإبلاغ عن أي تجاوزات.
حقائب وتجهيزات مدرسية في أحد المحال التجارية بدمشق – 12 أيلول 2025 (عنب بلدي)
الطلاب الوافدون يحاولون التأقلم
تواجه العائلات السورية العائدة من دول اللجوء، بعد سقوط النظام، تحديات جديدة في سبيل إعادة أبنائها إلى مسار التعليم السوري. التفاوت في المناهج، واختلاف البيئة التعليمية، والصعوبات النفسية، واللغة، كلها عوامل وضعت الطلاب العائدين في مواجهة واقع تربوي ونفسي مختلف كليًا عما اعتادوه.
أحد أبرز التحديات التي تواجه الطلاب الوافدين اختلاف المناهج الدراسية، ففي الوقت الذي اعتاد فيه هؤلاء مناهج تعليمية تركز على التفاعل والمشاركة، وجدوا أنفسهم أمام نظام تعليمي يركّز على الحفظ والتلقين، مع محتوى دراسي ثقيل وكثيف.
المناهج واللغة والاكتظاظ تصدم الطلاب
"كنت أخجل أن أجيب عن أسئلة المعلمة لأني لا أستطيع تركيب جملة عربية صحيحة، وكنت أخشى من سخرية زميلاتي بسبب لغتي الركيكة"، تقول وئام بدّي، طالبة مقبلة على الشهادة الثانوية. وئام، كانت من المتفوقات في مدرستها التركية، إلا أن عودتها إلى مدينة حماة والتحاقها بإحدى المدارس السورية الحكومية شكّلا منعطفًا صعبًا في مسارها الدراسي.
ذكرت الطالبة حادثة أثرت فيها كثيرًا حين طلبت منها المعلمة إعراب كلمة ولم تتمكن من الإجابة، فوبّختها أمام زميلاتها، الأمر الذي جعلها تفقد الثقة بنفسها وتتردد في المشاركة داخل الصف بعدها. ورغم محاولات بعض الزميلات والمعلمات مساعدتها، فإن وئام لا تزال تشعر بأنها متأخرة مقارنة بزميلاتها، وتؤكد أن تراجع مستواها الدراسي انعكس على حالتها النفسية، فهي تشعر بالإحباط، خاصة أنها على أعتاب الشهادة الثانوية وتخشى ألا تتمكن من تحقيق المعدل الذي كانت تطمح إليه.
روت وئام لعنب بلدي الصعوبات التي واجهتها منذ اليوم الأول، وفي مقدمتها ضخامة المناهج السورية مقارنة بما كانت تدرسه في تركيا، خاصة في المواد العلمية كالرياضيات والعلوم الطبيعية. لكن التحدي الأكبر، كما وصفته وئام، كان في مادة اللغة العربية، وبشكل خاص في دروس القواعد والإعراب، فقد درست لسنوات باللغة التركية، ما أدى إلى ضعف واضح في أساسيات اللغة العربية.
ولا تقتصر الصعوبات التي يواجهها الطلاب الوافدون على المراحل العليا، فطلاب المرحلة الابتدائية غير بعيدين عنها أيضًا. روى عبد الحليم عرفان، لعنب بلدي، تجربة ابنه الذي التحق بالصف الأول بعد العودة من تركيا، قائلًا إنه "واجه صعوبة كبيرة في اللغة، وكان زملاؤه قد سبقوه كثيرًا، مما سبب له الإرباك والقلق".
وأشار إلى أن أسلوب التعليم في سوريا والصفوف المكتظة، مقارنة بالبيئة الدراسية التي اعتادها الطفل في تركيا، أسهما في تراجع مستواه. لذلك، قرر والده التقدم بطلب إلى إدارة المدرسة لإعادة طفله إلى الصف الأول، حتى يتمكن من تأسيسه من جديد، وقال، "أقنعناه أن هذا ليس فشلًا بل فرصة لبداية أقوى، وقد تطلب الأمر جهدًا نفسيًا حتى لا يشعر بالدونية مقارنة بأقرانه".
طلاب المرحلة الأساسية في بلدة الدانا بريف إدلب الشمالي – 10 شباط 2025 (عنب بلدي/ محمد مصطو)
لا خطة.. "الأمر لاجتهاد المعلم"
مع غياب أي سياسة تعليمية واضحة من قبل وزارة التربية للتعامل مع هذه الفئة، باتت مسؤولية الدمج والتأقلم تقع على عاتق المدارس والمعلمين الذين يحاولون، ضمن إمكانياتهم المحدودة، ملء هذا الفراغ. قالت لمياء كاخي، وهي معلمة في مدرسة خاصة بمدينة حمص، إن أغلب الطلاب الوافدين كانوا يواجهون صعوبات لغوية وتعليمية منذ الأيام الأولى.
وأضافت، "لم يصدر تعميم أو خطة من وزارة التربية تشرح للمدارس كيفية التعامل مع هذه الفئة، والأمر متروك لاجتهاد المعلم وحده". وترى لمياء أن المدارس الخاصة، رغم بعض التحديات، تستطيع تقديم دعم أكبر للطلاب الوافدين مقارنة بالمدارس الحكومية، نظرًا إلى قلة عدد الطلاب في الصف الواحد، ما يتيح للمعلمة تخصيص وقت أكبر لكل طالب.
تتفق ريم الخطيب، معلمة صف أول في مدرسة حكومية، عايشت تجربة تعليم طلاب وافدين خلال العام الماضي، مع ما قالته لمياء، مضيفة أن كثيرًا من الطلاب الوافدين كانوا يجدون صعوبة في التفاعل مع زملائهم وحتى في فهم الثقافة المدرسية المحلية. وأوضحت أن التحديات لا تتعلق فقط باللغة، بل تمتد إلى اختلاف أساليب التدريس، وطريقة الامتحانات، والمحتوى الدراسي الذي يعتمد على الحفظ والتلقين بدرجة كبيرة، وهو ما لم يكن مألوفًا لدى الطلاب الوافدين.
تقترح لمياء عدة خطوات ضرورية لتجاوز هذه الأزمة، منها تخصيص حصص تقوية للغة العربية خلال العام المقبل، وتدريب المعلمين على كيفية التعامل مع طلاب قادمين من بيئات تعليمية واجتماعية مختلفة، إضافة إلى تعزيز التعاون بين المدرسة والأهل والمتابعة المنزلية من خلال دروس خصوصية.
فيما تأمل ريم أن يتم هذا العام تنظيم الصفوف وتخفيض عدد الطلاب في كل صف، كما تقترح إقامة دورات صيفية مركّزة للطلاب العائدين خاصة المقبلين على الشهادات، لتقويتهم لغويًا وتربويًا قبل بداية العام الدراسي.
اغتراب نفسي وثقافي
الطلاب العائدون لا يواجهون فقط صعوبة في المناهج أو البيئة، بل يعيشون ضغوطًا نفسية نتيجة الانتقال المفاجئ من نمط حياة إلى آخر. تسلّط وفاء شاهين، وهي مدربة مدربين بمجال الطفولة والشباب، الضوء على الأثر النفسي الذي تتركه تجربة العودة على الطلاب، مشيرة إلى أن كثيرًا منهم يعاني من شعور بالاغتراب النفسي والثقافي.
وقالت، "هم في بلدهم، لكن لا يشعرون بالانتماء للمدرسة أو المجتمع، لأنهم اعتادوا بيئة مختلفة تمامًا". وأضافت أن بعضهم يمكن أن يشعر بالقلق الاجتماعي والخوف من التنمر، والإحباط الأكاديمي بسبب اختلاف المناهج والأسلوب التدريسي والتربوي.
بعض الطلاب يمكن أن يشعروا بالقلق الاجتماعي والخوف من التنمر، والإحباط الأكاديمي بسبب اختلاف المناهج والأسلوب التدريسي والتربوي.
وفاء شاهين مدربة مدربين بمجال الطفولة والشباب
وتابعت أن الطلاب في مختلف المراحل يواجهون تحديات خاصة، ففي المرحلة الابتدائية، يظهر الحنين للمكان السابق، وعدم القدرة على التعبير عن المشاعر، أما في المرحلة الإعدادية، فيبرز قلق الهوية والانتماء، ويشعر المراهق بأنه مختلف سواء في اللغة أو في العادات، وفي المرحلة الثانوية، يصبح الضغط أكبر، إذ يواجه الطالب مخاوف مرتبطة بمستقبله الجامعي، ويتولد لديه شعور بأن عودته ربما أضاعت عليه فرصًا تعليمية أفضل.
وأشارت إلى أن بعض الطلاب المتفوقين سابقًا قد يشعرون بعدم التقدير في المدارس الجديدة، وهو ما يزيد من فقدان الدافعية، خاصة إذا لم تُبذل جهود لدمجهم ودعمهم نفسيًا.
وترى شاهين أن الحل يبدأ من المدرسة، عبر تنفيذ جلسات دعم نفسي فردي وجماعي، وتفعيل دور المرشد النفسي، وتعزيز التعاون مع الأهل، وتدريب المعلمين على تقديم دروس تفاعلية تعزز المهارات الحياتية، واحترام التنوع داخل الصفوف.
في مواجهة كل هذه التحديات، تبدو الحاجة إلى تدخل فعّال وشامل أمرًا ملحًا، فالطلاب الوافدون لا يحتاجون فقط إلى دروس تقوية، بل إلى خطة دمج حقيقية تشمل دعمًا نفسيًا وتربويًا واجتماعيًا.
ملامح جديدة للتعليم السوري
مع اقتراب انطلاق العام الدراسي الجديد، كشفت وزارة التربية والتعليم عن مجموعة من الخطط والمشروعات، التي تهدف إلى تطوير العملية التعليمية، في ظل واقع تعليمي وخدمي صعب يتسم بتضرر البنية التحتية، وتعدد المناهج، والتحديات الإدارية والاقتصادية.
وفي خطوة جديدة لتطوير التعليم الأساسي، أطلقت وزارة التربية، في 11 أيلول، مشروع إحداث صالات أنشطة مدرسية، وهي منصات تربوية متكاملة تهدف إلى صقل شخصية الطلاب، وتنمية مهاراتهم بما يتجاوز الصف التقليدي، هذه الصالات ستشكل بيئة تعليمية جاذبة، تتيح للطلاب التعلم وفق ميولهم، وتدعم ذوي الإعاقة، وتعزز الاندماج الاجتماعي، إلى جانب مساهمتها في معالجة مشكلات كالخجل والانطواء وربط الدراسة بالحياة العملية، بحسب قناة الوزارة على "يوتيوب".
وبالتوازي، تعمل الوزارة على تطوير المعلمين أكاديميًا ومهنيًا، إلى جانب تحسين أوضاعهم المادية، عبر خطة تدريجية لتوحيد سلم الرواتب في جميع المحافظات. وأوضحت الوزارة، في 10 أيلول، أن نحو 17,000 معلم ومعلمة ممن فُصلوا سابقًا سيعودون إلى عملهم بعد استكمال الإجراءات القانونية حتى منتصف أيلول، في خطوة اعتبرتها الوزارة استعادة للخبرات التعليمية الوطنية.
أما على صعيد المناهج، فقد وضعت الوزارة خطة استجابة إسعافية تعتمد على تعديل المناهج الحالية بإزالة كل ما يرتبط بالنظام السابق أو بالتشويهات التاريخية، على أن تبدأ هذه التعديلات بالعام الدراسي 2025-2026، وفي الوقت نفسه، يجري العمل على إعداد مناهج استراتيجية جديدة وفق معايير دولية، تراعي المهارات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وتنمية التفكير النقدي والاستنتاجي لدى الطلاب.
وفي إطار تعزيز البحث العلمي، أعلنت الوزارة عن خطة إحداث مركز "الابتكار التربوي والمراكز البحثية"، ويهدف هذا المركز إلى استقطاب الطلاب والمعلمين المتميزين ورعايتهم، إلى جانب تنظيم أولمبيادات وطنية علمية ورياضية وثقافية بالتعاون مع وزارات الثقافة والشباب والتعليم العالي.
كما تعمل الوزارة على تطوير التعليم المهني بمساراته المختلفة، وتحسين التدريب العملي وربطه بسوق العمل. وفي 12 أيلول، عقد معاون وزير التربية، يوسف عنان، ومديرة الصحة المدرسية، ميسون دشاش، اجتماعًا مع ممثلي دوائر الصحة المدرسية في مديريات التربية، لبحث آليات تنفيذ الخطة الصحية المعتمدة في المدارس، وركز الاجتماع على تفعيل دليل المنهج الصحي المخصص لمرحلة التعليم الأساسي، وتطوير مشاريعه بما يضمن بيئة مدرسية آمنة وصحية، تسهم في تعزيز التعلم السليم وحماية الطلاب.
التحديات الراهنة
رغم الخطط المستقبلية، تواجه الوزارة عدة تحديات تتمثل في:
- البنية التحتية: وفق إحصاءات رسمية لوزارة التربية، يضم قطاع التعليم نحو 19,400 مدرسة، منها 7,900 مدرسة مدمرة كليًا أو جزئيًا، أي ما يعادل 40% من إجمالي المدارس، الأمر الذي يحرم مئات آلاف الأطفال من حقهم في التعليم.
- التسرب المدرسي والطلاب العائدون: إذ يدرس حاليًا نحو 4.2 مليون طفل داخل سوريا، مقابل 2.4 مليون متسربين، كما يُتوقع عودة 1.5 مليون طالب من خارج البلاد، ما يضع الوزارة أمام تحديات إضافية تتعلق بتأمين مقاعد دراسية وخطط دمج ملائمة.
- قضية المعلمين: يبلغ عدد المعلمين 253 ألفًا، بينهم مثبتون ووكلاء وعاملون بالساعات، ما يخلق أوضاعًا قانونية متباينة، وتعمل الوزارة بالتعاون مع وزارة التنمية الإدارية على إعداد جداول تنظم هذه الحالات وتمنح كل معلم مركزًا قانونيًا عادلًا يحدد راتبه وحقوقه.
- تعدد المناهج: وجود خمسة أنظمة تعليمية، وخمسة امتحانات ثانوية وإعدادية داخل سوريا، يشكّل عقبة أساسية، ما دفع الوزارة إلى الاتجاه نحو منهاج وامتحانات موحدة ابتداء من العام المقبل، لضمان العدالة بين الطلاب.
- الطلاب الوافدون: يواجه الطلاب العائدون من دول مثل تركيا وألمانيا مشكلة اللغة، وقد بدأت الوزارة، بالتنسيق مع الجانبين التركي والألماني، بإنشاء مدرسة في كل محافظة، لتسهيل اندماج هؤلاء الطلاب ضمن المنهاج السوري.
انعكاسات مستقبلية
أصدرت رئاسة الجمهورية مرسوم إنشاء المجلس التعليمي الأعلى، في 5 أيلول، كهيئة عليا تُعنى برسم السياسات التربوية وضمان تكاملها مع احتياجات المجتمع وسوق العمل، ويشكّل المجلس مظلة استراتيجية لدعم خطط الوزارة ومتابعة تنفيذها.
إلى جانب ذلك، تعمل الوزارة بالتعاون مع وزارة التنمية الإدارية على إعادة هيكلة الجهاز الإداري، بهدف تبسيط الإجراءات وتحقيق هيكل أكثر رشاقة يخدم الطالب والأهل والمعلم على حد سواء، كما تتجه نحو تعزيز التعليم الافتراضي عبر تعديلات تشريعية تجعله أكثر فاعلية، وإطلاق بنك معلومات مفتوح يتيح للطلاب الاطلاع عليه وحفظ الأسئلة، ويكون بذلك قد ختم المنهاج، بحسب الوزارة.
وفي ملف الامتحانات، تخطط الوزارة للتخلي عن أسلوب قطع الإنترنت خلال الامتحانات الرسمية، واعتماد آليات وطنية بديلة تضمن النزاهة دون تعطيل الخدمات.
تقييم تربوي
يرى الموجه التربوي مثنى خضور، أن خطط وزارة التربية لتطوير المناهج والعملية التربوية تحمل بعدًا استراتيجيًا، إلا أنها تحتاج إلى آليات تنفيذ دقيقة. وأكد أن تدريب المعلمين داخل الملاك (المعلمون المثبتون) يجب أن يعتمد على الإشراف التربوي، وورشات العمل القصيرة، والدروس النموذجية، مع تشجيع المعلمين على تطوير أنفسهم عبر الدورات التقنية والاطلاع المستمر.
وأشار خضور إلى أن الأنشطة اللاصفية ستلعب دورًا محوريًا في تنمية المهارات الناعمة لدى الطلاب مثل التواصل، والتفاوض، والعمل الجماعي، وحل المشكلات. أما بالنسبة للطلاب العائدين من الخارج، فأوضح خضور لعب بلدي، أن أبرز الصعوبات التي يواجهونها تتمثل بحاجز اللغة بالنسبة للقادمين من دول أجنبية، إضافة إلى صعوبة المناهج وكثافتها، واعتماد نظام تقويمي صارم يركز على الحفظ، مع غياب أشكال التقويم البديل كالاختبارات الشفوية والمشاريع العملية.