الإثنين, 20 أكتوبر 2025 07:01 PM

فيلم «اللّي باقي منّك» لشيرين دعيبس: ملحمة فلسطينية مرشحة للأوسكار ومقاومة للنسيان

فيلم «اللّي باقي منّك» لشيرين دعيبس: ملحمة فلسطينية مرشحة للأوسكار ومقاومة للنسيان

يستعيد فيلم «اللّي باقي منّك» للمخرجة الفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس، عبر ملحمة تمتد لثلاثة أجيال من عائلة حمّاد، الذاكرة الفلسطينية. يروي الفيلم حكاية وطن سُرق صوته بين النكبة والانتفاضة والمنفى، مؤكداً أن السرد فعل مقاومة، وأن الذاكرة هي ما يبقى حين يغيب كل شيء.

أن يحكي الفلسطينيون قصتهم من منظورهم الخاص، لا يعني فقط رواية ما جرى، بل إعادة تعريف الحكاية والحقيقة نفسها: ما هي؟ كيف تُقال؟ ومن يملك حق قولها؟

في عالم تُختطف فيه السرديات كما تُختطف الجغرافيا، تصبح استعادة الحق في السرد، وتحديداً السردية الفلسطينية، ساحة معركة لا ترفاً ثقافياً. فمن يملك الحكاية، يملك الذاكرة، ومن يملك الذاكرة يملك المستقبل. من هنا، بدأت شيرين دعيبس فيلمها الجديد «اللّي باقي منّك» (2025) لتستعيد شيئاً مما سُرق، ولتطالب بحق السرد.

في مواجهة السرديات الصهيونية التي سلبت الفلسطينيين صوتهم، يأتي «اللّي باقي منّك» كسينما مضادة للنسيان. لا تسرد دعيبس حكايةً بقدر ما تستدعي ذاكرة متشظّية، معلّقة بين الأزمان، متداخلة بين الأجيال، بين من عاش النكبة ومن ورثها ككابوس يومي.

الفيلم ملحمة عائلية (ساعتين وعشرين دقيقة)، تُروى عبر ثلاثة أجيال لم تتوقف يوماً عن القتال، لا بالسلاح، بل بالدفاع العنيد عن الهوية. ليس ألم هذه العائلة، الممتدّ عبر عقود، مجرد سرد شخصي، بل استعارة لشعب بأكمله. من يافا، إلى نابلس، فالضفة الغربية، فحيفا ثم كندا، تتبع دعيبس عائلة حمّاد عبر أربعة مفاصل زمنية: النكبة عام 1948، والأعوام 1978، و1988، و2022.

في حاضر الفيلم، تتحدث حنان (شيرين دعيبس) إلى شخص عن ابنها نور (محمد عبد الرحمن)، الذي أُصيب برصاصة إسرائيلية عام 1988، في الضفة الغربية، بعد عام من اندلاع الانتفاضة الأولى. قبل ذلك بعشر سنوات، كان والده سليم (صالح بكري)، قد تعرض لإذلال لا يُنسى أمامه، على أيدي القوات الإسرائيلية قرب مخيم اللاجئين في الضفة الغربية.

وقبلها بثلاثين عاماً، اضطر شريف (آدم بكري، ومحمد بكري في زمن لاحق) والد سليم، إلى التخلي عن منزله وبستان الليمون خاصته في يافا، تزامناً مع ولادة الكيان. «اللّي باقي منّك»، فيلم عن الفترات الفاصلة بين المجازر، كاتالوغ لكلّ ما لا نراه: الحياة العائلة اليومية، والتوترات، والمعاناة، والمعضلات الأخلاقية.

لا تقتصر المخرجة على سرد النكبة والشتات، بل تدعونا إلى جوهر الصراعات الجيلية داخل العائلة الواحدة. نرى كيف أنّ سليم أكثر امتثالاً وخضوعاً من والده، الذي لا يزال يحمل ندوب النكبة وبدأت مبادئه القومية تؤثر في حفيده نور الذي سيعبّر عنها لاحقاً بجرأة أكبر.

دائماً ما كان سرد قصة عائلة من أكثر الطرق فعالية لإيصال السردية المعقّدة، بدءاً من السياق الجيوسياسي الذي تكتشفه الأحداث، وصولاً إلى الظروف العامة التي تؤطر الأحداث الخاصة. ولدعيبس إيقاعها الخاص في التعامل مع التاريخ، حيث لا استعجال، ولا انفعال مباشر. يتكشّف الألم شيئاً فشيئاً، من دون أن يغرق في الغضب أو الشفقة. هنا، لا تُقدّم النكبة كحدث فقط، بل كمسألة جيلية، حيث يُعلّم الأجداد أحفادهم البقاء، والتجذّر، وخوض معركتهم الخاصة بالتزامن مع معركة الوجود.

الصدمات المتوارثة بين الأجيال، والذاكرة التاريخية للشعب الفلسطيني، ليست خلفية درامية، بل نسيج الشريط نفسه. الفيلم تذكير بالحاجة إلى إعادة تأكيد بعض الحقائق البديهية: تلك الأراضي التي يسكنها الإسرائيليون اليوم، التي لا تبعد أحياناً سوى دقائق عن البحر، لم تكن فراغاً، بل تحمل تاريخاً عائلياً يمتد لقرون.

في عمل يُفترض أن يُقرّبنا من الألم، من الوجوه، من التفاصيل، تبدو الكاميرا (تصوير اللبناني كريستوفر عون) كأنها تتراجع قليلاً، تُراقب من مسافة، ربما خشية الانكشاف الكامل. يتبنى الفيلم أسلوباً سردياً أميركياً مألوفاً: حبكة واضحة، شخصيات محددة، خير وشر بلا تعقيد، وألم لا يغرق في الرمزية. كل شخصية تُقدّم استجابة طبيعية، مع القليل من الميلودراما. الهدف هو خلق صورة حميمية ومتعاطفة، واضحة في الشكل، تقليدية في النتيجة، لكنها لا تتخلى عن لحظات الملحمة الشعبية. صنعت دعيبس فيلماً طموحاً، شجاعاً وضرورياً، خاصة للمشاهد الغربي الذي ما يزال يكافح لفهم تعقيدات القضية الفلسطينية.

إن تبنّي هذا الشكل السردي الأميركي، ببساطته ووضوحه ومباشرته، هو خيار إستراتيجي، يهدف إلى الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. لكن هذا الخيار يدعو للنقاش: هل تكفي البساطة لنقل عمق القصة والقضية؟ وهل يمكن للوضوح أن يحمل تعقيد الذاكرة الفلسطينية؟ هذا لا يعيب الفيلم في شيء، فهو لا يزال جيداً. بل على العكس، من الجيد أن نستخدم أدواتهم لسرد قصصنا.

لكن السؤال يبقى: ما الذي يبقى منّا حين نرويها بطريقتهم؟ وما الذي يُفقد حين نُبسّط ما لا يُبسّط؟ تُظهر دعيبس أنّ الإنسانية نفسها شكل من أشكال المقاومة، وهذا جميل ومؤثر. لكنه أيضاً يدعو للنقاش: لماذا يُطلب من الفلسطيني أن يكون إنسانياً كي يُسمع؟ لماذا عليه أن يُظهر إنسانيته في وجه المجازر، والإبادة الجماعية، والتهجير، وكأن كلّ ما حدث لا يكفي؟

وهذا يأخذنا إلى الجزء الأخير من الفيلم، حيث يتصدّر موضوع التبرّع بالأعضاء المشهد بشكل مفاجئ، ويأخذ حيّزاً متضخماً في الثلث الأخير، مقارباً أحياناً أسلوب الترويج العاطفي الزائد. معضلة أخلاقية أوجدتها دعيبس من لا مكان. في تلك المرحلة، كان جوهر الحبكة قد اتّضح بالفعل، ولم تكن هناك حاجة فعلية إلى هذا الامتداد السردي لهذه المعضلة، أو حتى إلى وجودها ضمن هذا السياق الملحمي.

هذه النقطة تُشكّل أحد أضعف مفاصل الفيلم، إذ نشعر أنّ السرد يطول بلا ضرورة، خصوصاً عندما نكون قد بلغنا لحظة كان يُفترض أن تكون خاتمة. هذا التحوّل لا يُفقد الفيلم قيمته، لكنه يُعيد توجيه عدسته من الجماعي إلى الفردي، ومن التاريخ إلى المعضلة، في توقيت كان فيه الجمهور قد استقر عاطفياً على إيقاع مختلف.

تصوير المستوطن الإسرائيلي في «اللّي باقي منّك» مثير للاهتمام (وإن لم يكن له داعٍ لارتباطه بالجزء الأخير من الفيلم) لأنه لا يسعى إلى المواجهة المباشرة، بل إلى زعزعة الطمأنينة. يُقدّم «الجيش»‏ كقوة قمعية، لا تنحرف عن صورة «الشرير»، لكنّ «المواطن»‏ الإسرائيلي المدني يُصوّر ككائن خامد، جبان، أو غير قادر على إدراك حجم الظلم الذي ارتكبته دولته بحق شعب لا يُعترف حتى بحقه في الوجود.

الإسرائيليون، كما يُقدّمهم الفيلم، معتادون على ممارسة السلطة، ربما كامتداد غير واع لمأساة الهولوكوست (ذكرها أحد الإسرائيليين في الفيلم)، لكنهم لا يتساءلون عمّا يفعلونه، ولا عمّا يعنيه أن يعيش الآخر في ظلّهم وظلمهم. مع ذلك، لا تُهاجم دعيبس، بل تُفضّل إثارة قلق الجمهور، الذي لا يسعه إلا أن يشارك هواجس العائلة الفلسطينية، التي فقدت كلّ شيء، ولم يبق لها سوى صورة أمام منزل كان لها ولم يعد.

«اللّي باقي منّك» طموح، ومؤثر، ويستحق التقدير، وناقص بالضرورة، لا لأن دعيبس قصّرت، بل لأن موضوعه نفسه لا يُحتوى. ربما كان يستحق شكلاً أكثر جرأة، وجمالية أكثر تفرداً. في النهاية، ما يمنح «اللّي باقي منّك» ثقله الحقيقي ليس فقط ما يقوله، بل ما يُصرّ على تذكّره، في العودة إلى التاريخ، في العودة إلى بدايات كلّ شيء. فالذاكرة هنا ليست مجرد خلفية سردية، بل فعل مقاومة، واستعادة، وإصرار على أن ما مضى لم ينته، وأن ما سُلب لا يُمحى بالزمن.

الذاكرة، في الفيلم، ليست نوستالجيا، بل وثيقة حيّة، تُعيد ترتيب الحاضر. إنها ما يربط الأجيال الثلاثة، وما يجعل من البيت المهجور، والبحر، والصورة القديمة، أماكن لا تزال تنبض بالحياة، ولو أنّها لم تعد موجودة. في النهاية، ما يبقى منّا، حين لا يبقى شيء، هو الذاكرة.

اختير «اللّي باقي منّك» لتمثيل الأردن في جوائز الأوسكار، عن فئة أفضل فيلم روائي دولي، ثم انضم الممثلان مارك روفالو وخافيير بارديم كمنتجين منفذين. وهو ثالث أفلام شيرين دعيبس الطويلة، بعد «أميركا» (2009) و«مي في الصيف» (2013)، لتعود بعد غياب دام 12 عاماً بفيلم أكثر نضجاً وتركيباً، تمارس فيه سيطرة كاملة: مخرجة، وكاتبة، وممثلة، في عمل يمتد على ساعتين وعشرين دقيقة. رغم كونه سياسياً، يُقدّم الفيلم نفسه بطريقة مثيرة للاهتمام، عبر التظاهر بأنه ليس كذلك.

مشاركة المقال: