يستعرض هذا المقال مفهوم الديمقراطية كما تجسد في التجربة المعاصرة، بدءًا من "الديمقراطية الشكلية" الإجرائية وصولًا إلى "الديمقراطية ذات المضمون" التي تتحمل فيها الدولة مسؤوليات اقتصادية واجتماعية.
يشير ألبير داغر إلى أن الديمقراطية الشكلية تعطي الأولوية للعناصر الإجرائية مثل الانتخابات، بينما تتضمن الديمقراطية ذات المضمون مسؤوليات الدولة الاقتصادية والاجتماعية، كما ظهر في التجارب الاشتراكية الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية.
يعدد نكوذا ماهاو، الباحث في القانون الدستوري من جنوب أفريقيا، الأسس الليبرالية للديمقراطية الشكلية، وهي خضوع الجميع لسلطة القانون، والفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء. ويرى غيللرمو أودونيل، الباحث الأرجنتيني، أن الأدبيات حول الديمقراطية غير كافية، ويقدم مقاربة جديدة لفهمها وتحسينها.
الأسس الليبرالية للديمقراطية الشكلية:
أ – خضوع الكل لسلطة القانون: يرى ماهاو أن الديمقراطية الشكلية نشأت من حاجة البورجوازية الأوروبية للحد من السلطة المطلقة للملوك، وترافقت مع دور التنوير. وكانت أفضل طريقة للحد من السلطة الاعتباطية هي إخضاع القرارات لنصوص وأحكام مكتوبة.
يقدم أودونيل مراجعة لكتاب ألكسيس دو توكفيل "الديمقراطية في أميركا"، مشيرًا إلى أن الجسم القضائي كان المرجع في حل القضايا الحكومية والخاصة في غياب إدارة حكومية واسعة الانتشار. وميز دو توكفيل خاصيتين في التجربة الأميركية: الفدرالية وانتخاب كل من يتولى منصباً حكومياً.
لم يكتف دو توكفيل بالتحليل المؤسساتي، بل أشار إلى وجود "تقاليد" أو "ثقافة سياسية" تميز المواطنين الأميركيين، وهي الاحتكام لسلطة القانون. ويرى أن إرساء حكم القانون في أميركا يعود إلى التساوي بين المواطنين كأصحاب حقوق وإلى كون المجتمع الأميركي "مجتمعاً ديموقراطياً".
في أوروبا القارية، انتشرت ثقافة حكم القانون من النخبة إلى الجمهور الواسع. وانطلق الباحث ديساي من قراءة دو توكفيل لشرح حكم القانون، موضحاً ذلك عبر ثلاثة عناوين بالاستناد إلى تجربتي إنكلترا والولايات المتحدة.
أولها امتناع أجهزة الدولة عن ممارسة أي سلطة اعتباطية تجاه المواطنين. ولقد حمى الاحتكام لسلطة القانون المواطنين من هذا النوع من الممارسات. وسبقت إنكلترا أقرانها الأوروبيين بقرنين في إرساء هذا الواقع.
في المقارنة بين إنكلترا في القرن الثامن عشر ودول أوروبا القارية، قدم أمثلة على الاحتكام لسلطة القانون بوصفه نقيض التعسف. وأخذ من تجربة فرنسا مثالاً حيث لم يكن هناك ما يحمي أصحاب الرأي من تعسف السلطة.
قدّم أودونيل عرضاً متكاملاً لمقاربة واقعية للديموقراطية كبديل من مقاربة الحد الأدنى لها، وعدّد أربعة شروط لتحقّق ديموقراطية واقعية تبدأ بإجراء الانتخابات، وتشمل الحريات السياسية المطلوبة، والحقوق المدنية الموفّرة للمواطنين، وشروط المساءلة.
والعنوان الثاني للممارسة القائمة على حكم القانون هو أن مطلَق شخص، بصرف النظر عن مقامه الاجتماعي أو شروط حياته، يخضع لسلطة القانون (legal equality). وهو ما يُستدلّ عليه من عمل المحاكم العادية (ديساي، 1960: 149). ورأى ديساي أن تخصيص الموظفين في فرنسا بقانون خاص بهم هو «قانون الموظفين» مثّل خروجاً على مبدأ التساوي في الحقوق بين المواطنين.
وأضاف ديساي عنصراً ثالثاً في تفسيره لحكم القانون هو اعتباره أن الدستور وما يتضمّنه من عناصر وتفاصيل، انبثق في إنكلترا من عمل المحاكم العادية. أي إنه كان وليد تعامل هذه المحاكم مع القضايا الخاصة والعامة. ولم يكن سابقاً لهذه الممارسة أو منفصلاً عنها (ديساي، 1960: 153). وقد انتقد الهالة التي تُحاط بها مناسبات الإعلان عن الدستور ورأى أن ما هو أهم من إعلان المبادئ الدستورية هو أن تتضمّن هذه النصوص آليات تجعل هذه المبادئ قابلة للتطبيق.
ب – الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء: والمقصود هنا هو السلطات الثلاث، التشريعية والإجرائية والقضائية. وهي التي يجب أن لا تبقى محصورة في يد واحدة لمنع الطغيان في ممارسة الحكم. وقد اعتمدت هذه المقاربة من قبل المثقفين التنويريين في أوروبا في إطار الصراع من أجل دحر السلطة المطلقة التي كان الملوك يمارسونها آنذاك. وقدّم مونتسكيو الإسهام الرئيسي فيها. وقد جرى تطوير هذا الإسهام في ما بعد بحيث لم يعد الأمر يقتصر على الفصل بين هذه السلطات بل ينطوي أيضاً على تعاونها. وجاءت استقلالية القضاء تطبيقاً وترجمة لمفهوم الفصل بين السلطات.
2. إضاءة أودونيل بشأن الديموقراطية المعاصرة عرض أودونيل مقاربات الباحثين الذين تناولوا الديموقراطية بالتركيز فقط على موضوع الانتخابات فيها. وصنّف هؤلاء أنفسهم باعتبارهم ينتمون إلى مقاربة الحد الأدنى للديموقراطية (minimalist)، وأنهم يتبعون في ذلك مقاربة شومبيتير أحد الروّاد في هذا المجال. لكن قراءة أودونيل لإسهام شومبيتير، بيّنت أن هذا الأخير أضاف شروطاً سياسية وأخلاقية ومجتمعية لإجراء الانتخابات ولم يشرحها. وهي جعلته على مسافة من مقاربة الحد الأدنى هذه.
والأمر نفسه ينطبق على مقاربات الباحثين هؤلاء بدءاً من برزوورسكي مروراً بـهنتنغتون ودي بالما ودياموند وصولاً إلى داهل. وكل من هؤلاء عبّر بطريقته عن ضرورة توافر الحريات السياسية لكي يكون النظام ديموقراطياً بالفعل. وعند داهل فإن هناك سبع اشتراطات تناولت كيفية إجراء الانتخابات والحريات السياسية المطلوبة. وأهمها أن تجري الانتخابات من دون غشّ، وأن تكون حرية التعبير وحرية الانتماء إلى أحزاب مستقلة مضمونتين (أودونيل، 2001: 12).
ولقد وجد أودونيل أن الباحثين الغربيين انطلقوا من تجارب بلدانهم، الأمر الذي جعلهم يغفلون وجود نواقص في التجربة الديموقراطية لا تظهر إلا عند معاينة أداء ديموقراطيات العالم الثالث. وعلى سبيل المثال، فإنه يمكن في تجارب أميركا اللاتينية أن ينجح متبارون في الانتخابات ثم يجري منعهم من تسلّم مهماتهم التي ينص عليها الدستور. أي تنتفي في هذه الحالات قدرة الانتخابات على تكون حاسمة (decisiveness) (أودونيل، 2001: 14).
وقدّم أودونيل عرضاً متكاملاً لمقاربة واقعية (realistic) للديموقراطية كبديل عن مقاربة الحد الأدنى لها. وعدّد أربعة شروط لتحقّق ديموقراطية واقعية تبدأ بإجراء الانتخابات، وتشمل الحريات السياسية المطلوبة، والحقوق المدنية الموفّرة للمواطنين، وشروط المساءلة التي ينبغي أن تتوفّر عليها هذه الديموقراطية.
وبالنسبة إلى الانتخابات، رأى أنه ينبغي أن تكون هذه الأخيرة منصفة (fair) وأن تجري مأسستها. وعدّد خمسة شروط لكي تكون منصفة هي أن يمارس الناخبون حريتهم في الانتخاب وأن تكون تنافسية وأن تجري على قاعدة التساوي بين المرشحين وأن تكون نتائجها حاسمة وأن تشمل كل المعنيّين. وتكون ممأسسة إذا باتت تجري بشكل منتظم ومتكرّر (أودونيل، 2001: 13). وهذان العنصران هما شرط رئيسي لقيام نظام سياسي ديموقراطي.
وبالنسبة إلى الحريات السياسية المطلوبة، وهي حرية التعبير وحرية الاجتماع بشكل رئيسي، فقد رأى الباحث أن هناك نوعين من الحدود لهذه الحريات. الخارجية منها تتناول على سبيل المثال تعاطي الدولة مع المرشحين المعارضين. وفي تجارب أميركا اللاتينية يُمكن أن يُمنع هؤلاء من التنقل بحرية داخل البلاد. أمّا الداخلية، فهي تتغيّر باستمرار. وفي ما يخص حرية التعبير على سبيل المثال، فإن ما يتغيّر هو القوانين التي تنظّم ملكية وسائل الإعلام وتعاطي الدولة مع «احتكار القلّة» لهذه الوسائل. وذكّر أودونيل بأن حرية التعبير وحرية الاجتماع كانتا تصنفان في الأساس كحقوق مدنية قبل أن يجري إدراجهما في خانة الحريات السياسية.
أمّا بالنسبة إلى الحقوق المدنية، فرأى الباحث أنها سبقت بوقت طويل الحريات السياسية. وانطلق من مفهوم «القدرة على الفعل» (agency) الذي أرست التجربة الليبرالية العمل به. وذلك بمعنى أن كل فرد قادر على التصرّف باستقلالية وعقلانية ومسؤولية بما يتيح له تحقيق مصلحته الذاتية. وهذا ما يجعله مستحقاً حيازة حقوق مدنية لعل أشهرها حق التعاقد. وإلى ذلك، تتناول الحقوق المدنية المساواة أمام القانون لكل المواطنين وحرية التنقّل لهم وعدم تعريضهم للتمييز في المعاملة من طرف المؤسسات الحكومية (أودونيل، 1998(b): 24). وتناول الباحث وايتهيد مسألة «أمن وسلامة المواطن» كأحد الحقوق المدنية الرئيسية التي يتوجّب على الدولة أن توفرها للمواطنين (وايتهيد، 2002).
وجاءت الديموقراطية في مرحلة لاحقة لتوفّر للمواطنين شروط «المواطنة السياسية» (political citizenship). وهي حق كل منهم في أن يَنتخب وفي أن يترشّح للانتخابات (أودونيل، 2001: 19). وفي الغرب لم يكن تعميم الحقوق والواجبات المترتبة على «المواطنة السياسية» بالأمر السهل. وتحجّج المعارضون لشمول هذه الحقوق والواجبات المواطنين كافة بأن فئات كثيرة منهم لم تحظ بتعليم ولا تمكنت من حيازة ملكية وبقيت في فقر شديد.
أي إن شرط «القدرة على الفعل» غير متوافر لديها. وانتقلت الممارسة الديموقراطية إلى البلدان المستقلة حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية ضمن شروط غير تلك التي عرفتها الدول الغربية. وبقيت التشريعات المتعلقة بالحقوق المدنية للمواطنين ضعيفة جداً في هذه البلدان وبحاجة إلى بلورة (أودونيل، 2001: 21).
كذلك بقيت «الدولة القانونية» (legal state) أو «الدولة بوصفها قانوناً» (state as law) ضعيفة الحضور والانتشار وغير قادرة على فرض الاحتكام للقانون على كامل الأرض الوطنية (أودونيل، 2001: 27). وفي كبرى دول أميركا اللاتينية تبقى مناطق تعادل بمساحتها مساحة دول متوسطة الحجم خارج سلطة الدولة وتخضع في إدارتها لنظم مافيوية.
ولقد كرّس أودونيل جهداً على حدة لتبيان أن المساءلة (accountability) هي شرط أساسي لتحقّق ديموقراطية واقعية (أودونيل، 1998(a)). وربط بينها وبين الإرث الليبرالي الذي يشدّد على حماية الحرية الشخصية، والإرث الجمهوري الذي يقوم على التشدّد في إعلاء الشأن العام على المصلحة الخاصة، والإرث الديموقراطي الذي يجعل الكل سواسية في الخضوع لسلطة القانون. وشرح أشكال المساءلة الثلاث: وهي العمودية التي تجسدها الانتخابات ويستطيع المواطنون عبرها محاسبة من انتخبوهم، والأفقية التي تتيح لأعضاء السلطتين التشريعية والقضائية الرقابة على المؤسسات الإجرائية ومعاقبة المخلّين، والمجتمعية التي تتيح للمجتمع المدني التعبير عن رأيه بواسطة العرائض وتعويض خلل المحاسبة بواسطة الانتخابات.
ولقد رأى أودونيل أن مشكلة بلدان أميركا اللاتينية وغيرها من العالم الثالث تعود إلى حرمان فئات كبيرة من مواطني هذه البلدان من حقوقهم المدنية. ويتبدّى ذلك في المعاملة التمييزية التي يتعرّضون لها على يد الأجهزة الحكومية. ورأى أن تطوير التشريعات في هذا الميدان ينصف المهمّشين منهم ويسمح بالتصدّي للفقر وتوسّع رقعته بشكل خطير في هذه البلدان.
وكخلاصة، فإن شروط إرساء ديموقراطية واقعية هي أربعة: الانتخابات المنصفة والممأسسة، وتوفُّر الحقوق المدنية للمواطنين والحرّيات السياسية لهم وقدرتهم على المساءلة بأشكالها الثلاثة: العمودية والأفقية والمجتمعية (أودونيل، 2004). ويمكن جمعها في لائحة واحدة. وهي أن تكون الانتخابات حرّة وتنافسية وقائمة على التساوي وحاسمة وشاملة، أي منصفة، وأن تكون ممأسسة.
وينبغي أن تكون حرية التعبير وحرية الاجتماع موفرتان. كما ينبغي أن تكون الحقوق المدنية، أي حرية التعاقد والتنقّل واعتماد المساواة في تعامل الدولة مع المواطنين، موفّرة. وينبغي توفير شروط المحاسبة الأفقية على وجه الخصوص. ولا يتحقّق كل ذلك إلا إذا كانت «الدولة القانونية» قائمة وموجودة على كامل الأرض الوطنية.
* أستاذ جامعي