هل يمكن أن يدفع المستهلكون أسعارًا مختلفة للسلعة نفسها؟ سؤال كان يبدو خيالياً، لكنه أصبح واقعاً ملموساً في عالم التجارة الرقمية. الذكاء الاصطناعي بدأ يتغلغل في تحديد الأسعار، معتمداً على مراقبة سلوك المستهلكين وتحليل بياناتهم الشخصية لتقدير المبلغ الذي هم على استعداد لدفعه.
من "دلتا" إلى "أمازون"، الذكاء الاصطناعي يقرر السعر. في يوليو الماضي، كشفت شركة الطيران الأميركية "دلتا إيرلاينز" أن حوالي 3% من أسعار تذاكرها المحلية تحدد باستخدام الذكاء الاصطناعي، مع خطة لرفع النسبة إلى 20% بحلول نهاية عام 2025. هذا الإعلان أثار قلقاً في الأوساط التشريعية الأميركية.
وجه ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ، مارك وارنر وروبن غاليغو وريتشارد بلومنثال، رسالة رسمية إلى "دلتا" يطالبون فيها بتوضيح تفاصيل استخدام ما سموه "التسعير الديناميكي المعتمد على الذكاء الاصطناعي"، محذرين من استغلال بيانات العملاء لتحديد الأسعار بشكل فردي بناءً على الحد الأقصى الذي يمكن للمستهلك دفعه.
رغم نفي "دلتا" ممارسة أي تسعير تمييزي، أكدت رئيسة لجنة التجارة الفدرالية لينا خان أن الشركات قادرة على استخدام بيانات المستهلك لتقدير قدرته المالية واستغلالها في رفع الأسعار تدريجياً.
"التسعير القائم على المراقبة": عندما تصبح بياناتك سلعة. تقرير صادر عن لجنة التجارة الفدرالية الأميركية (FTC) في يناير 2025، كشف أن شركات التجزئة تستخدم ما يُعرف بـ "التسعير القائم على المراقبة"، وهو نموذج يعتمد على جمع وتحليل بيانات المستخدمين لتخصيص الأسعار.
تبدأ العملية بجمع معلومات مثل عنوان IP ونوع الجهاز والمتصفح، مدة التصفح وأنماط التمرير وحركات الماوس، سلوك الشراء السابق والموقع الجغرافي للمستخدم. ثم تُحلَّل هذه البيانات بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتقدير "حساسية السعر"، وتحديد الأسعار آلياً بما يضمن أعلى ربح ممكن للبائع.
يشرح الباحث القانوني أورن بار غيل من "جامعة نيويورك" أن الخوارزميات تمكن البائعين من تقسيم قاعدة عملائهم إلى فئات دقيقة جداً، وفرض سعر مختلف على كل مستهلك وفق قدرته على الدفع.
يقوم التسعير القائم على المراقبة على مبدأ بسيط: كل نقرة تساوي معلومة. فمن خلال مراقبة الوقت الذي تمضيه على صفحة منتج ما، أو عدد المرات التي أضفت فيها السلعة إلى عربة التسوق ثم تراجعت، يمكن للذكاء الاصطناعي استنتاج حالتك العاطفية ومدى استعجالك وقدرتك الشرائية.
على سبيل المثال، من يختار "التوصيل السريع" يُعتبر أقل حساسية للسعر، ومن يشاهد فيديو المنتج حتى النهاية يُصنف كمستهلك أكثر اهتماماً، ومن يتصفح ليلاً أو من هاتف مرتفع السعر يُفترض أنه قادر على الدفع أكثر. وتُستخدم هذه المؤشرات لتحديد السعر الأمثل لكل شخص في لحظات، وهو ما يُعرف بـ "التسعير الشخصي".
حتى الآن، لا يُعتبر هذا النوع من التسعير غير قانوني في معظم الدول، لكنه يثير جدلاً متزايداً. ففي الولايات المتحدة، جرى تقديم 51 مشروع قانون في 24 ولاية خلال عام 2025 لتنظيم التسعير الخوارزمي.
أبرز هذه القوانين: نيويورك حظرت التسعير المخصص غير المُعلن، أوهايو ألزمت الشركات بإخطار المستهلكين إذا كانت الأسعار تحدَّد بواسطة خوارزمية، والمملكة المتحدة أقرت قانون الأسواق الرقمية والمنافسة وحماية المستهلك (DMCCA)، الذي يتيح فرض غرامات تصل إلى 10% من الإيرادات العالمية على الشركات المخالفة.
في المقابل، يرى خبراء الاقتصاد أن فرض قيود صارمة قد يعيق الابتكار، مؤكدين أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم أيضاً لتقديم خصومات ذكية وتحسين كفاءة السوق، لا لاستغلال المستهلكين.
توصي لجنة التجارة الفدرالية المستخدمين بعدة إجراءات احترازية مثل استخدام وضع التصفح الخاص أو المتخفي لمنع تخزين الكوكيز، حذف سجل التصفح بانتظام، واستخدام شبكات VPN لإخفاء الموقع، والحد من مشاركة البيانات في المتاجر الإلكترونية أو تطبيقات الولاء. لكن خبراء الأمن السيبراني يحذرون من أن هذه الإجراءات لم تعد كافية، إذ باتت الشركات قادرة على تتبع المستخدمين عبر ما يُعرف بـ "بصمة الجهاز".
يرى المحللون أن الذكاء الاصطناعي سيجعل من التسعير الشخصي قاعدة جديدة لا استثناء. ويحذر الباحث أورن بار غيل من أن هذا الاتجاه قد يؤدي إلى تمييز اقتصادي واسع.
بين الكفاءة والعدالة، يقف "التسعير القائم على المراقبة" على خط رفيع. فهو من جهة يمكّن الشركات من تحسين أرباحها وتقديم عروض مخصصة، لكنه من جهة أخرى قد يكرّس فجوة رقمية جديدة.
في عالم يتحول فيه كل تفاعل إلى معلومة، وكل معلومة إلى سعر، يبدو أن الذكاء الاصطناعي لم يعد فقط يقرر ما نشتري، بل كم سندفع مقابل ذلك.