بعد عقد ونيف من الدمار والتهجير، تشهد قرية الغسانية، الواقعة في منطقة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، منعطفاً هاماً مع عودة تدريجية لسكانها الأصليين إلى ديارهم. تتضافر جهود الأهالي والكنيسة والسلطات المحلية لإنعاش القرية التي عانت الأمرين خلال السنوات الماضية.
على الرغم من المشاهد الاحتفالية التي واكبت العودة الرمزية، بمشاركة سوريين من مختلف الطوائف من القرى المجاورة، إلا أن الواقع يشي بمسيرة طويلة من المعاناة والدمار والتغيرات الجذرية التي طالت القرية منذ عام 2011.
(2011 – 2012): مع انطلاق الاحتجاجات في سوريا عام 2011، بقيت الغسانية في منأى نسبي عن الصراع، حيث كان سكانها يعيشون حياة ريفية هادئة تعتمد على زراعة الزيتون والغار كمصدر رزق أساسي. ومع اتساع رقعة النزاع في محافظة إدلب، بدأت التوترات الأمنية تتصاعد تدريجياً في محيط القرية، خاصة بعد الاشتباكات المتكررة في منطقة جسر الشغور.
(2013 – 2015): عام 2013 كان نقطة تحول مأساوية في تاريخ القرية، إذ تعرضت الغسانية لقصف عنيف من قبل قوات النظام السابق، بما في ذلك قصف بالبراميل المتفجرة استهدف المنازل والكنيسة الرئيسية. يقول عبد الله إبراهيم، مختار الغسانية، لـ”سوريا 24″: “القصف لم يفرق بين بشر وحجر، سقطت البراميل على بيوت الأهالي ووصلت آثارها إلى الكنيسة. يومها فقدنا عدداً من أبناء القرية، وبدأت موجة نزوح واسعة شملت الجميع تقريباً”.
بحلول نهاية عام 2013، كانت معظم العائلات قد غادرت القرية إلى مناطق أكثر أماناً في الساحل وحلب، بعد أن تجاوزت نسبة الدمار 75% من المساكن، وفقاً لتقديرات الأهالي. كما فقدت القرية معظم أشجارها المثمرة، إذ يوضح المختار أن “عدد أشجار الزيتون في الغسانية كان يقارب 75 ألف شجرة، اقتُلع القسم الأكبر منها من قبل أمن النظام وأهالي قرية العالية الموالية له، فيما جفّت أشجار الغار تماماً بسبب انقطاع المياه”.
في عام 2015، سيطرت فصائل المعارضة على مدينة جسر الشغور ومحيطها، لتصبح الغسانية ضمن منطقة خارجة عن سيطرة النظام البائد. غير أن بقاء بعض العائلات المسيحية في القرية أدى إلى استهداف مباشر من قبل النظام البائد لمنازلهم وممتلكاتهم، بحسب ما أكده المختار.
(2016 – 2022): خلال هذه المرحلة، تحولت الغسانية إلى قرية شبه خالية من السكان، لم يتبقَّ فيها سوى بضع منازل مهدمة وكنيسة مدمرة بشكل شبه كامل. في تلك السنوات، تحوّل الحديث عن العودة إلى مجرد أمل بعيد، إذ كانت المنطقة تُعد من أكثر مناطق الشمال السوري توتراً.
(2023 – 2024): في تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، سُجّلت أول عودة رسمية لعائلات الغسانية بعد 13 عاماً من التهجير، بدعم من مطرانية الروم الأرثوذكس وتنسيق مباشر مع قيادة المنطقة والبلدية. يقول الأب إبراهيم خشيفة، المكلف من المطرانية بترتيب شؤون العائدين: “تواصلنا مع قيادة المنطقة، وكان التجاوب ممتازاً، وخلال أيام قليلة بدأت الفرق برفع الأنقاض وتنظيف الشوارع”، وأبدى دهشته من حجم الدمار في القرية. ويضيف أن الكنيسة، رغم دمارها شبه الكامل، ستكون من أولى الأبنية التي ستُرمم بالتعاون مع الدولة، مؤكداً أن “العودة ليست حدثاً رمزياً فقط، بل بداية حقيقية لاستعادة الحياة”.
من بين العائدين، منال محرتاوي التي عبّرت لـ”” عن فرحتها الغامرة بالعودة إلى قريتها بعد تهجيرٍ دام أربعة عشر عاماً، قائلة: “كنا فاقدين الأمل بالعودة للقرية، والحمد لله تحقق حلمنا ورجعنا لأهلنا وأراضينا وبيوتنا”، وتتنهد قليلاً: “صحيح أن الدمار كبير والوجع حاضر، لكن إن شاء الله بهمة أولادها وبناتها منرجع منعمرها أحسن من قبل بكتي”.
حتى الآن، عادت نحو ست عائلات إلى القرية فقط، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى أكثر من 45 عائلة مع مطلع الربيع المقبل، بحسب تقديرات المختار عبد الله إبراهيم، الذي شدد على ضرورة “توفير الحماية الكاملة لأرزاق السكان من اللصوص”.
واقع الغسانية اليوم: تشهد القرية حالياً عمليات تنظيف محدودة وإزالة ركام، فيما تعمل فرق فنية على تقييم البنية التحتية المهدمة. الطرق الفرعية لا تزال بحاجة إلى إصلاح، وشبكات الكهرباء والمياه خارج الخدمة، في حين بدأت بعض المبادرات المحلية بزراعة أراضٍ مجاورة لإعادة إحياء الزراعة تدريجياً. الكنيسة المدمرة تحولت إلى رمز للأمل والمثابرة، إذ يجتمع الأهالي حولها لإقامة الصلوات والاحتفالات الدينية، رغم غياب السقف والجدران في أجزاء واسعة منها.
رسائل الأهالي: في ختام حديثه، وجه المختار عبد الله إبراهيم رسالة إلى أبناء القرية المقيمين في الداخل والخارج قائلاً: “هذه الأرض أرضنا، وعودتنا إليها واجب علينا جميعاً.. نرجو من كل من هُجّر أن يعود لبناء بيته واستعادة أرضه. الغسانية كانت مثالاً للتعايش، وستعود كما كانت”. بدوره، دعا الأب إبراهيم خشيفة إلى “مواصلة الدعم لإعادة إعمار القرية، وحماية ممتلكات الأهالي، وضمان عودتهم الكاملة دون تمييز”.