الأحد, 10 أغسطس 2025 10:28 PM

اللغة العربية في العصر الرقمي: هل تواجه تحديات تهدد هويتها أم فرصًا لازدهارها؟

اللغة العربية في العصر الرقمي: هل تواجه تحديات تهدد هويتها أم فرصًا لازدهارها؟

"اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي وعاء الفكر وذاكرة الأمم"، بهذه الكلمات التي خطّها طه حسين في نقده الشهير لأزمة التعليم في العالم العربي، ينطلق التأمل في مصير اللغة العربية. هذه العبارة، التي كُتبت في منتصف القرن العشرين، تكتسب اليوم أهمية مضاعفة في ظل متغيرات العصر الرقمي، حيث تواجه اللغة العربية تحديات غير مسبوقة على مستوى الهوية والدور والفعالية.

لقد صمدت العربية لأكثر من أربعة عشر قرنًا، وأوصلت أجيالًا من العلماء والمبدعين إلى قمم المجد الثقافي، لكنها اليوم تواجه خطر التهميش حتى في موطنها، في ظل مشهد لغوي عالمي سريع التغير، تتنافس فيه اللغات واللهجات والمنصات، وتتراجع مكانة الفصحى في معظم جوانب الحياة العامة.

تكشف الحقائق عن أزمة حقيقية. فبحسب تقرير اليونسكو لعام 2023، تحتل اللغة العربية المرتبة الرابعة بين اللغات المهمشة في الأنظمة التعليمية الوطنية، مما يعني أنها تُدرّس غالبًا بطريقة نمطية لا تواكب العصر ولا تجذب المتعلمين. وتشير دراسة لاتحاد إذاعات الدول العربية إلى أن 82% من المحتوى التلفزيوني العربي يعتمد على اللهجات المحلية، مما يضعف استخدام الفصحى ويقلل من حضورها في الوعي الجماهيري. وفي الفضاء الرقمي، تؤكد منظمة "إرث العربية" المتخصصة في رصد المحتوى العربي أن نسبة المحتوى المكتوب بالفصحى لا تتجاوز 23% من إجمالي المحتوى العربي المتاح على الإنترنت، في ظل هيمنة اللهجات واللغة الهجينة وغياب التخطيط اللغوي الواعي.

هذه المظاهر ليست سوى أعراض لأزمة أعمق، مرتبطة بجذور ثقافية وتاريخية وبنيوية. أحد أبرز تجليات هذه الجذور هو الانفصال التاريخي بين لغة التعليم الرسمي ولغة الحياة اليومية، مما يجعل تعلم الفصحى أشبه بعبور جسر لغوي نحو بيئة مصطنعة، بعيدة عن الواقع. يصف المفكر المغربي عبد الله العروي هذه الإشكالية في كتابه "أزمة المثقفين العرب" بأنها مظهر من مظاهر التبعية الفكرية، حيث يتردد العرب بين الانبهار بالنموذج الغربي والرغبة في الحفاظ على الخصوصية. أما مالك بن نبي، في كتابه "شروط النهضة"، فيعزو الأمر إلى "عقدة الدونية اللغوية"، التي تجعل الناطقين بالعربية يستهينون بلغتهم أمام اللغات الأجنبية، ويختزلون التقدم في التماهي مع الآخر.

تتفاقم الأزمة حين ننظر إلى الثنائيات المربكة التي تحكم النقاشات اللغوية المعاصرة: الفصحى مقابل العامية، العربية مقابل اللغات الأجنبية، الأصالة مقابل المعاصرة. هذه الثنائيات ليست مجرد خيارات لغوية، بل هي تعبير عن قلق الهوية في زمن العولمة. وعندما نطبقها على النظام التعليمي، نجد أن المناهج لا تزال أسيرة الحفظ والتلقين، ولا تتيح للطلاب أن يعيشوا اللغة أو يستمتعوا بها. والأدهى من ذلك أن نحو 45% من معلمي اللغة العربية غير مؤهلين تربوياً، وفقًا لإحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، مما يكرس أسلوبًا تقليديًا في التدريس لا يعكس روح اللغة ولا إمكاناتها الإبداعية.

كما أن غياب الأدوات التكنولوجية المناسبة يعمق هذا الانفصال، فاللغة العربية لا تزال تعاني من محدودية في برمجيات المعالجة الآلية للنصوص، مقارنة باللغات الأخرى، وهو ما يعيق إنتاج محتوى رقمي متطور، ويضعف حضور اللغة في أدوات الذكاء الاصطناعي والتعليم الإلكتروني، وهما من أهم مفاتيح العصر.

لكن، في خضم هذه التحديات، تظهر نماذج ناجحة تبعث الأمل وتفتح آفاقًا جديدة. فالنموذج الماليزي، على سبيل المثال، يقدم درسًا مهمًا في كيفية الجمع بين تعزيز اللغة الوطنية وإتقان اللغة الإنجليزية، دون أن تكون إحداهما على حساب الأخرى. كما أن مشروع "حروف"، المنصة التعليمية الرقمية التي جذبت أكثر من مليوني طالب عربي، أثبت أن اللغة العربية قادرة على تقديم محتوى تعليمي جذاب وعصري إذا ما توفر له الدعم والإبداع. ولعل أبرز ما يعكس إمكانات التجديد هو تجربة قناة "ماجد" للأطفال، التي نجحت في تقديم برامج كاملة بالفصحى، بأسلوب ممتع، وحصدت ملايين المشاهدات، مما ينفي مقولة أن الفصحى لا تصلح لجذب الأجيال الجديدة.

ما نحتاج إليه اليوم هو الانتقال من تشخيص الأزمة إلى رسم ملامح الحل. هناك آليات يمكن أن تنهض باللغة العربية من كبوتها، إذا توفرت الإرادة السياسية والثقافية. في المجال التعليمي، لا بد من تحديث مناهج تعليم اللغة العربية لدمج مهارات القرن الحادي والعشرين، والانتقال من "العربية للامتحان" إلى "العربية للحياة"، حيث تُستخدم في المواقف اليومية لا كمادة للحفظ فقط. وفي المجال التقني، ينبغي دعم تطوير أدوات المعالجة الآلية للنصوص العربية، وزيادة المحتوى الفصيح في المنصات الرقمية، وتوفير تطبيقات تعلم اللغة بجودة عالية. أما في الجانب التشريعي، فإن إصدار قوانين لحماية اللغة العربية، وإلزام المؤسسات العامة والخاصة باستخدام الفصحى في مخاطبة الجمهور، يمكن أن يشكل خطوة مؤسسية مهمة نحو تكريس حضور اللغة في الفضاء العام.

إن التصدي لأزمة اللغة العربية لا يعني الانغلاق على الذات أو رفض التعدد، بل يستدعي بلورة مشروع نهضوي يجعل من اللغة رافعة للمعرفة والابتكار. هذا المشروع ينبغي أن يقوم على أربع ركائز: تعليم جذاب يعيد للطلاب شغفهم باللغة، وإعلام مسؤول يكرس الفصحى بوصفها لغة معاصرة، وبحث علمي ينتج معرفة بلغتنا الأم، وصناعة لغوية تستثمر في التطبيقات الرقمية والمحتوى المرئي والمسموع. ومن هنا يمكن رسم خارطة طريق عملية، تبدأ بإصلاح المناهج التعليمية بين عامي 2024 و2026، وتستكمل بتطوير الصناعة المعجمية وتحديث القواميس الرقمية في الفترة بين 2025 و2027، ثم تركز على تعزيز الحضور الرقمي للغة العربية حتى عام 2030، عبر مبادرات تشاركية بين القطاعين العام والخاص.

في هذا الإطار، من الضروري التفكير في آليات مؤسساتية تدعم هذا التوجه. يمكن، على سبيل المثال، الدعوة إلى مؤتمر عربي جامع لوضع استراتيجية موحدة للنهوض باللغة، على غرار المبادرات الأوروبية لحماية اللغات الوطنية. كما أن إنشاء "صندوق عربي لدعم اللغة"، يمول المبادرات التعليمية والتقنية والإعلامية، سيمنح المشروع بعداً تنفيذياً. ويمكن تأسيس "مرصد لغوي عربي" يتولى متابعة تنفيذ السياسات اللغوية، ويصدر تقارير دورية عن حال اللغة وتطورها في مختلف المجالات.

ربما تبدو هذه الرؤية طموحة في ظل الأوضاع العربية الراهنة، لكن اللغة كانت ولا تزال في صلب الصراع على الوجود الثقافي والسياسي. وكما قال الشاعر أدونيس: "ليس المهم أن ننادي بعظمة العربية، بل أن نجعلها عظيمة بالفعل". إن تحديث اللغة ليس خيانة للأصالة، بل هو شرط لاستمرارها. وتاريخ اللغة العربية نفسه شاهد على قدرتها على التكيف والتطور، من النقوش الجاهلية إلى عيون الشعر العباسي، ومن تفاسير المفسرين إلى روايات المعاصرين. وحدها الإرادة المشتركة بين الدولة والمجتمع والمدرسة والوسيلة الإعلامية قادرة على تحويل هذا الرصيد الحضاري إلى طاقة حية، تشكل جسر عبور إلى مستقبل نكون فيه نحن صانعي اللغة، لا ضحاياها.

فاروق غانم خداج

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

مشاركة المقال: