الخميس, 27 نوفمبر 2025 02:42 PM

تظاهرات الساحل السوري: مطالب محقة واختبار لسوريا الجديدة

تظاهرات الساحل السوري: مطالب محقة واختبار لسوريا الجديدة

شهدت مناطق في الساحل السوري في 25 تشرين الثاني/نوفمبر تظاهرات دعا إليها الشيخ غزال غزال، مفتي اللاذقية السابق ورئيس المجلس الإسلامي العلوي الذي تأسس في بداية عام 2025 بعد سقوط النظام البائد. رفع المتظاهرون شعارات تطالب بالإفراج عن المعتقلين، وإعادة الموظفين والعسكريين المفصولين إلى وظائفهم، ووقف حالات الخطف أو القتل.

تُعتبر هذه المطالب محقة وتعكس شعورًا متزايدًا لدى شريحة واسعة من أبناء الطائفة العلوية بصعوبة الواقع المعيشي، سواء على مستوى الأمان الشخصي أو شروط المعيشة أو حضور الدولة كمرجعية قانونية. ومع ذلك، لا يمكن فصل هذه التظاهرات عن السياق الأوسع لسوريا ما بعد النظام البائد، حيث لا يزال المشهد السوري يعاني من الانقسامات المجتمعية والجراح المفتوحة.

تُمثل أي حركة احتجاجية، حتى وإن بدت مطالبها محدودة، اختبارًا سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا لسوريا، لتحديد ما إذا كانت قد دخلت مرحلة جديدة فعلًا أم أنها ما تزال تتحرك فوق أرض النزاعات والمظالم المتراكمة. يمكن قراءة مطالب المتظاهرين في الساحل من زاويتين متداخلتين: اجتماعية اقتصادية وسياسية.

على المستوى الاجتماعي، يعيش جزء كبير من أبناء الطائفة العلوية حالة انهيار اقتصادي وفقر شديد، حيث اعتمدت المناطق الساحلية لعقود على الوظائف الحكومية والمؤسسات الأمنية والعسكرية، ولم تُطوّر قاعدة اقتصادية حقيقية بسبب سياسات النظام البائد الذي أبقى هذه المناطق في حالة اعتماد شبه كامل على الدولة لضمان ولائها. حرمت هذه السياسة المجتمع المحلي من تكوين المهارات وفرص العمل، مما جعل سقوط النظام يترك فراغًا اقتصاديًا كبيرًا.

أما على المستوى السياسي، فإن جزءًا واسعًا من أبناء الطائفة العلوية يمر بمرحلة إعادة تعريف موقعه أمام الدولة الجديدة، بعد أن كان يُستخدم لحماية النظام، أو عائلة الأسد. ومع سقوط نظام الأسد، دخلت الطائفة في حالة اضطراب داخلي، حيث تشعر بعبء الجرائم التي ارتكبها النظام باسمها، وتخشى انتقامًا جماعيًا أو إقصاءً سياسيًا.

استقبل العديد من السوريين هذه التظاهرات بالشك في أحقية مطالبها، حيث يجدون صعوبة في تقبّل خطاب المظلومية الذي يقدمه المحتجون، نظرًا لمعاناتهم من القصف والاعتقال والحصار والتهجير على يد الأجهزة الأمنية التي استندت في معظمها إلى عناصر من الطائفة العلوية. ترك النظام البائد جروحًا اجتماعية عميقة، فهناك مدن دُمّرت بالكامل، وعائلات اختفى أفرادها في المعتقلات، ومجتمعات هُجّرت وصودرت مقدراتها. في المقابل، خسر العلويون آلافًا من شبابهم في حرب لم تكن حربهم.

يتطلب ردم هذه الفجوة النفسية والاجتماعية عملية مصارحة وطنية تُبنى على قانون عادل وشفاف، لا على منطق الغلبة أو الانتقام. زادت حساسية الموقف بسبب محاولة الانقلاب التي قادها ضباط وعناصر من بقايا النظام في الساحل في آذار/مارس 2025، والتي خلفت مئات الضحايا من عناصر الأمن العام، وكان الهدف منها جرّ الحكومة الجديدة إلى مواجهة دامية مع المدنيين.

تعاملت الحكومة السورية الجديدة مع التظاهرات بحكمة وهدوء، ولم تُسجّل أي اعتداءات على المتظاهرين، وأكد مسؤولون أن حق التظاهر مكفول، وأن الدولة تقف على مسافة واحدة من جميع السوريين. تمثل هذه المقاربة خطوة مهمة في تأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، ولكن بناء الدولة بعد عقود من الاستبداد يتطلب تفكيك البنى الطائفية التي أسس لها النظام البائد، وإدارة عادلة لملفات الشرطة والجيش والمفصولين والمعتقلين، وخلق اقتصاد قادر على استيعاب الشباب من كل المناطق والطوائف.

تقع على عاتق الأكثرية مسؤولية أكبر في قيادة مشروع وطني جامع، فالثورة التي اندلعت من أجل الحرية والعدالة والدولة المدنية لا يمكن أن تتحول إلى مشروع إقصاء. يجب على الأكثرية أن تتحلى بالصبر والحكمة، والتعامل مع مطالب المحتجين في الساحل عبر تشكيل لجان قانونية مستقلة تفرّق بين المذنب والبريء، بعيدًا عن أي مقاربة طائفية أو أيديولوجية.

هذه المقاربة ضرورية لمنع أي توظيف خارجي يريد إعادة إشعال الفتنة الطائفية في البلاد، حيث تسعى أطراف لإبقاء المجتمع السوري في حالة قلق ونزاع دائم، ما يمنع قيام عقد وطني شامل أو دولة وطنية قوية ومتماسكة. لن تحقق سوريا الاستقرار إلا إذا تحاور أبناؤها وتصارحوا واعترف المخطئ بأخطائه وسوء خياراته، وعندما يجد السوريون من كل المكونات بأن صوتهم مسموع، وأنهم شركاء في إدارة الدولة لا رعايا فيها.

أخيرًا، فإن التظاهرات الأخيرة في مناطق العلويين ليست مجرد حدث احتجاجي محدود، بل مؤشر على مرحلة سياسية جديدة تبحث فيها كل الأطراف عن مكانها في سوريا ما بعد النظام، واختبار لقدرة السوريين على تجاوز رواسب الماضي وبناء دولة لا يكون فيها الانتماء الطائفي وثيقة تزكية، بل يكون المواطن فيها قيمة عليا تُحترم حقوقه ويُحاسب لوحده على أفعاله.

مشاركة المقال: