الإثنين, 3 نوفمبر 2025 06:46 PM

حلب: الزوايا والتكايا.. منارات الطرب الأصيل وحاضنات الإبداع

حلب: الزوايا والتكايا.. منارات الطرب الأصيل وحاضنات الإبداع

تستكشف عنب بلدي، عبر قلم محمد ديب بظت، روح مدينة حلب من خلال نغماتها، تلك الأنغام التي لم تنطلق من خشبات المسارح أو أثير الإذاعات، بل من حنايا الزوايا والتكايا التي كانت، في يوم من الأيام، ملاذًا للروح ومقامًا للألحان.

كانت التكية ملتقى للمريدين والمنشدين، وفضاءً رحبًا يتدرب فيه الحس على تمييز المقامات، ويختبر الصوت آفاق النغمة والسكينة. ففي هذه الزوايا، كان المنشد يتعلم أبعادًا تتجاوز الأداء الصوتي، ويكتسب حس الاستماع الجماعي، ويتعمق في أهمية التفاعل مع الآخرين، وفهم مشاعر المجتمع من خلال النغم.

أبعد من مجرد أصوات

تتعدى عملية التعلم حدود الصوت لتصبح تجربة حياتية متكاملة. فالتدريب على المقام والقدود يصقل الروح ويعزز الانضباط، ويغرس في الفنان القدرة على التعبير عن مشاعر الناس بصدق وعفوية، كما يوضح ضياء الدايخ، نجل المنشد الحلبي المعروف أديب الدايخ.

ويرى ضياء، السائر على خطى والده، في حديثه لعنب بلدي، أن الزوايا كانت مدارس متكاملة للوعي والممارسة الجماعية، حيث تمثل كل جلسة إنشاد فرصة لصقل الموهبة وفهم المقام والإيقاع، مع تعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع. هذه الخبرة المبكرة تصنع فنانًا متكاملًا، يدرك أن الغناء ليس مجرد نقل للأصوات، بل هو نقل للحياة والمشاعر والتاريخ المحلي.

الفن في كنف المجتمع

يعتبر الباحث الموسيقي عبد الحليم حريري أن الزوايا والتكايا لعبت دورًا حيويًا في الحفاظ على المقامات والإيقاعات العربية وروح الجملة الموسيقية، من خلال الموشحات والأدوار والمدائح الدينية والمدنية. وما يميز خريجي هذه البيئات هو قدرتهم على الأداء العفوي والصادق، وهو ما منح الغناء الحلبي طابعه المتميز، بحسب حريري.

ويشير إلى أن الإنشاد الديني حافظ على شكل القصيدة والموال، وطور طرق الأداء، وأصبح فنًا محميًا اجتماعيًا، يربط الناس ببعضهم ويضمن استمرارية التراث، بينما تراجع عدد هذه المدارس، مما يستدعي الحاجة إلى دعم رسمي للحفاظ على ما تبقى من هذا التراث الحي.

ويرى الموسيقي محمد علي، خريج المعهد العالي للموسيقا، أن التكايا والزوايا لم تكن مجرد مدارس للموسيقا، بل فضاءات اجتماعية متكاملة شكلت نواة الحياة الجماعية في المدينة. ففي هذه الأماكن، كان المنشدون يتعلمون ليس فقط ضبط الصوت والمقام، بل أيضًا التفاعل مع الآخرين وفهم الانفعالات الجماعية، ما جعلهم قادرين على التعبير عن مشاعر المجتمع من خلال الفن.

بعض الزوايا، كتلك التي كانت موجودة في الجامع الأموي الكبير قبل الحرب، ضمت فرقًا من المنشدين، بمن فيهم منشدون مكفوفون، حيث كانت أصواتهم تتعالى بين جدران الجامع، لتصل إلى الحاضرين وتملأ المكان روحانية. كانت هذه الزوايا بمثابة مدارس اجتماعية وموسيقية في آن واحد، تمنح الفرصة للجميع للتعلم والممارسة، وتكرس الانتماء للتراث الموسيقي الحلبي.

وفي سنوات الحرب، اختفت هذه الظاهرة بالكامل تقريبًا، مما أثر بشكل مباشر على ظهور المنشدين في الزوايا التقليدية، وفقد المجتمع بذلك جزءًا من فضاءاته الثقافية والاجتماعية التي تربط بين الأجيال. ووفقًا لمحمد علي، فإن هذا الفراغ لا يقتصر على الجانب الفني، بل يمتد ليشمل الجانب الاجتماعي والوجداني، إذ تضاءلت الفرص التي كانت تتيح للفنانين الجدد تعلم الالتزام بالتراث، والتواصل مع المجتمع، واكتساب خبرة مباشرة في التعبير الجماعي من خلال الصوت.

الذاكرة الحلبية وصوت المدينة

مع تغير نمط الحياة في حلب، تراجعت الزوايا وقلت حلقات الذكر الجماعية، لكن أثرها ظل حاضرًا في القدود والموشحات التي تُغنى في الجلسات الصغيرة أو المنازل، فهي تذكّر الناس بأن الموسيقا كانت ولا تزال جزءًا من الوجدان الاجتماعي، وأن أصوات المدينة لم تنفصل عن قصص سكانها وموروثهم.

ويرى عبد الحليم حريري أن إحياء الدور الذي لعبته الزوايا ممكن عندما تهتم الجهات الرسمية بالموضوع بشكل جدي، لأن الأمر يحتاج إلى خطة واضحة ودعم مالي، لكنه يلفت إلى أن غياب تلك التكايا عن المشهد الفني المعاصر يعني خسارة مدارس كاملة للغناء العربي، كانت تحفظ المقامات وتورث الحس الموسيقي قبل أي معهد أو مسرح.

ووفقًا لما وثقه محمد قدري دلال في كتابه “القدود الدينية- بحث تاريخي وموسيقي في القدود الحلبية”، كانت الزوايا والتكايا البيئة الأساسية التي خرجت منها القدود والموشحات والمدائح الدينية، حيث صقلت هذه الأماكن الحس الجماعي والفني للمجتمع الحلبي، وعلمت الناس الالتزام بالتراث واحترام الأبعاد الاجتماعية للموسيقا.

ويقول دلال في كتابه الآخر “شيخ المطربين صبري مدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه”، إن الفنان صبري مدلل نفسه نشأ في هذا الفضاء، وتكونت قدراته على الإنشاد والمقام داخل التكايا قبل أي ظهور إعلامي أو مسرحي، ما يعكس الدور المركزي لهذه المؤسسات في الحفاظ على التراث ونقل القيم الثقافية والاجتماعية للأجيال القادمة.

هذه الخلفية تؤكد أن الزوايا والتكايا لم تكن مجرد أماكن للذكر أو الموسيقا، بل مدارس حياة، شكلت أجيال الفنانين، واحتفظت ببصمة المجتمع الحلبي وروحه حتى اليوم.

مشاركة المقال: