في أزمنة الانغلاق، يصبح السؤال تهمة، ويُنظر إلى التفكير على أنه عصيان. لكن التاريخ لا يتقدم إلا عندما يجرؤ العقل على التعبير عن نفسه، ويستعيد الإنسان حقه في الفهم قبل الإيمان، والاختيار قبل الخضوع.
حرية التفكير ليست ترفًا، بل هي حق الوعي في الرؤية. فالعقل الذي خُلق ليضيء، لا ينبغي إطفاؤه باسم القداسة. والإيمان المبني على الخوف لا يدوم، لأن ما يزرع تحت التهديد لا يثمر صدقًا، بل طاعة عمياء تشبه الموت البطيء للعقل.
منذ كلمة "اقرأ" الأولى في الوحي، بدأ طريق الحرية. كانت دعوة للفهم، لا أمرًا بالصمت؛ للنظر في الوجود، لا للهروب منه. وعندما اختُزل الدين في طقوس جامدة، وغابت روح السؤال، تحول الإيمان إلى مؤسسة تُدار، بدلًا من تجربة تُعاش.
في جوهرها، حرية التفكير ليست خروجًا عن الإيمان، بل عودة إليه بطريقة أكثر نضجًا. فالمؤمن الحقيقي لا يخاف النور، لأنه منه وُلد. يدرك أن الله لا يُعرف بالخضوع للأوامر فقط، بل بالقدرة على التأمل، وبالوعي الذي يرى في كل فكرة بصمة من بصمات الخالق.
أما الذين يخافون الفكر، فهم يخشون هشاشتهم أمامه. يخشون انكشاف السلطة عند مساءلة النص، واهتزاز الموروثات عند قياسها بمعيار العقل. لكن الخوف لم يكن وسيلة لحماية الإيمان، بل طريقًا إلى تحجره. فالله لا يُطلب من وراء الأسوار، ولا تُصان القيم بمنع التفكير فيها.
كل أمة احترمت العقل نهضت، وكل حضارة قمعت الفكر خبت. لأن السؤال لا يهدم، بل يبني. ومن يخاف السؤال، يخاف رؤية الحقيقة خارج المألوف، بينما كل تقدم بدأ عندما خرج أحدهم على المألوف بإيمان أشد وعيًا.
في الواقع السوري اليوم، نحن بأمس الحاجة إلى هذا الإيمان الحر؛ إيمان لا يُقصي، ولا يتعصب، ولا يخاف الحوار. لقد أنهكتنا الأيديولوجيات عندما أصبحت بديلًا عن التفكير، وأرهقنا الصراع على "الحق" عندما فقدنا القدرة على الإصغاء للآخر.
لكن الأوطان لا تُبنى بالإكراه، بل بحرية يتقاطع فيها العقل مع الضمير، والإيمان مع الفهم. إن حرية التفكير ليست خصمًا للدين ولا للوطن، بل شرط نضجهما معًا. فالوطن الذي يمنع أبناءه من التفكير، يفقد روحه، والإيمان الذي يخاف السؤال، يفقد معناه.
ولعل أجمل ما نختم به هو ما يقوله الوعي عندما يصفو: أن الله الذي خلق العقل، لم يخلقه ليُطفأ، بل ليُضيء. فمن يضيء عقله، يضيء وطنه أيضًا. (أخبار سوريا الوطن-2)