لا يمكن إنكار مظاهر الفساد المالي والإداري المتفشية في مؤسسات الإدارة السورية الجديدة. وأبرز دليل على ذلك هو حديث الرئيس أحمد الشرع، رأس السلطة، عن ضرورة الشفافية ومنع المسؤولين من استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
بينما يقتصر فهم البعض للفساد على السرقة المالية، إلا أنه يشمل أيضاً سوء الإدارة، أي إساءة استخدام الممتلكات العامة، والضعف الإداري، والتعيينات المشبوهة، وغياب الشفافية، وغيرها من الممارسات التي تضر بمصلحة الدولة والمواطن.
تواجه حكومة العهد الجديد تركة ثقيلة من الفساد المتراكم من الحكومات السابقة. فقد تولت مهامها في بداية عام 2025، في وقت كان فيه البلد يحتل المرتبة 177 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، وفقاً لتقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2024. وهذا يستدعي إصلاحات جذرية على المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية وحتى الاجتماعية والثقافية.
في سبيل مكافحة الفساد، أعيدت هيكلة "الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش" وأطلقت منصة إلكترونية لتلقي الشكاوى والبلاغات المتعلقة بالفساد والرشاوى في المؤسسات الحكومية. هذه خطوات إيجابية نحو الرقابة على الأداء وحماية المال العام، وتمكين المواطنين وإشراكهم في الإبلاغ عن الفساد. لكن الحلقة الأهم لا تزال غائبة، وهي صحافة المساءلة. فبغياب هذه الأداة، ستخف الضغوط التي تمارسها الصحافة على أصحاب القرار، وسيفقد الجمهور أهم أدوات الوعي والمعرفة بحقيقة ما يجري وتفاصيله.
تشير مؤشرات "منظمة الشفافية الدولية" إلى أن الدول التي تتمتع بصحافة حرة ومستقلة تشهد انخفاضاً في معدلات الفساد بنسبة تتراوح بين 30 و40% مقارنة بالدول التي يغيب فيها الإعلام عن ممارسة دوره الرقابي.
يتجلى الفساد على مستويات مختلفة، بدءاً من الفساد الفردي الصغير وصولاً إلى الشكوك حول الفساد المؤسسي الحكومي المتوسط والكبير. ويشكو العديد من المواطنين من أنهم يواجهون حالات فساد مماثلة لتلك التي كانت تحدث في عهد النظام السابق، بدءاً من أصغر الدوائر، حيث لا يزال بعض الموظفين يطلبون رشاوى مقابل تسهيل الإجراءات. كما يشير أصحاب المصالح في القطاعات المهنية والصناعية والزراعية إلى وجود أشخاص جدد يتحكمون بالمناقصات والمزايدات. بالإضافة إلى ذلك، يشكك الكثيرون في غياب الشفافية في الاستثمارات وفي هوية أصحاب القرار المتحكمين. وإذا صحت هذه الشكوك، فإنها تشكل جزءاً أساسياً من الفساد الحديث الذي قد يصبح منظماً إذا لم تساهم مختلف الجهات في مكافحته، وعلى رأسها الإعلام.
لكي يضطلع الإعلام بدوره في مكافحة الفساد، فإنه يحتاج إلى:
- قوانين تضمن حرية الصحافة، كما هو الحال في الدنمارك، التي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في حرية الصحافة وتعتبر الدولة الأقل فساداً في العالم.
- حماية الصحفيين من التهديدات الأمنية والقانونية، حيث أن أكثر من 70% من الصحفيين المستهدفين عالمياً كانوا يعملون على قضايا فساد أو انتهاكات سلطة، وفقاً لتقييم "لجنة حماية الصحفيين".
- منع الفساد داخل المؤسسات الإعلامية نفسها من خلال مراقبة التمويل والتبعية السياسية.
- تعزيز موارد التدريب على صحافة المساءلة.
- الشفافية والسماح للإعلام بالوصول إلى المصادر.
لننظر إلى ماليزيا، التي تبنت رؤية إصلاحية شاملة لمكافحة الفساد وربطها بالتنمية منذ وصول مهاتير محمد إلى رئاسة الوزراء عام 1981. قبل ذلك، كانت ماليزيا تعاني من البيروقراطية وعجز مالي متزايد. بدأ مهاتير عهده بشعار "حكومة نظيفة وفعالة"، وأطلق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية. وخلال سنوات، تحولت ماليزيا إلى نموذج للدولة الناجحة، وارتفع ناتجها المحلي من 25 مليار دولار أمريكي عام 1980 إلى 420 مليار دولار اليوم، وفقاً لبيانات البنك الدولي.
كان الإعلام الحر أو شبه الحر في ماليزيا جزءاً من آلية المساءلة، وليس مجرد مراقب سلبي. وقد أسهم في ترسيخ ثقافة محاربة الفساد من خلال حملات التوعية ونشر الأفكار حول "الحكومة النظيفة"، وإطلاع الجمهور وتحفيز المجتمع المدني على المشاركة. وعلى الرغم من تطور التجربة الماليزية، لا تزال هناك قوى حيوية تنتقد مستوى الحريات الصحفية وتطالب بمشاركة إعلامية فعالة أكثر في ذلك البلد، لتقوية الرقابة والتنافسية والحُكم الرشيد. ويفسر هذه الحيوية عقد الشبكة الدولية للصحافة الاستقصائية مؤتمرها Global Investigative Journalism Conference (GIJC) في كوالالمبور، عاصمة ماليزيا، في تشرين الثاني 2025.
تحتاج سوريا إلى استخلاص الدروس من تجارب الدول التي حاربت الفساد بالاعتماد على جميع أدوات الضغط والمراقبة، بما في ذلك الصحافة. وهذا يستدعي رفع سقف الحريات الصحفية، وإصدار تشريعات تضمن الحماية وحق الوصول للمعلومة، وفسح المجال أوسع أمام الصحفيين الاستقصائيين.
وللحديث بقية.