الإثنين, 7 يوليو 2025 11:47 AM

أنطوان الدويهي في "الشتاء الكبير": رفض لتصفية الحسابات على أساس المسؤولية الجماعية

أنطوان الدويهي في "الشتاء الكبير": رفض لتصفية الحسابات على أساس المسؤولية الجماعية

في روايته "الشتاء الكبير"، الصادرة عن "دار المراد" و"الدار العربية للعلوم ـ ناشرون" في بيروت، يتناول الروائي اللبناني أنطوان الدويهي ظاهرة الأخذ بالثأر في المجتمع العشائري، وهي ظاهرة خطيرة تعود بجذورها إلى الجاهلية، وتقوم على القوة الفردية والقبلية بعيداً عن القانون.

أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنّ الانتقام لا يقتصر على القاتل الفرد، بل يتعدّاه إلى جميع أفراد العائلة أو القبيلة، ما يطيح بالأبرياء، عملاً بقاعدة المسؤولية الجماعية التي تجعل الفرد مجرّد رمز لتحقيق توازن المستويات الجماعية، كما ورد في الرواية.

يعبّر الدويهي عن هذه الظاهرة من خلال مدينة متخيّلة، موريا، ذات شطرين شرقي وغربي، يرصد العلاقات المتوترة بينهما، القائمة على العنف في إطار صراع تاريخي على السلطة والنفوذ، ناجم عن الانتقال من المجتمع الزراعي إلى مجتمع الخدمات. ما يذكي هذا الصراع هو المجتمع العشائري المتعصب، الذي يمجّد القوة، ويعمل بقاعدة المسؤولية الجماعية، وينفّذ أوامر الزعيم المحلي، ما يرتّب حوادث عنف أودت بنحو مئة وخمسين قتيلاً ومئات الجرحى، وبلغت الذروة بمجزرة في كنيسة غسقا.

تُشكّل الرواية شهادة على مرحلة تاريخية آفلة في بيئة محافظة في شمال لبنان، في محاولة لتفكيك الظاهرة والدعوة إلى الإقلاع عنها، وهو ما يتحقّق في نهاية الرواية بفعل تدخّل عامل خارجي غير متوقّع، حيث يُضطرّ أهالي الموريّتين، بفعل الهزّة الأرضية العنيفة، إلى اللقاء في ساحة كنيسة السيدة، ما يُؤذن بانتهاء مرحلة وبداية أخرى.

الوقائع الأساسية في الرواية تُحيل على وقائع تاريخية لبنانية، خلال القرن العشرين؛ فانقسام المدينة إلى شطرين يذكّر بتبادل القصف بين شطري بيروت، وحادثة كنيسة غسقا تعيد إلى الأذهان حادثة كنيسة مزيارة. وتنقل الأهالي بين موريا وجيناتا يشبه التنقل بين زغرتا وإهدن. يتّخذ الدويهي من حوادث تاريخية مادة أولية لروايته، ويعيد تشكيلها في ضوء سيرته الذاتية وثقافته وخبرته الكتابية، لتتشكّل "الشتاء الكبير". وهنا، تجدر الإشارة إلى تقاطعه مع جبور الدويهي الذي تناول حادثة الكنيسة في روايته "مطر حزيران".

يضع الدويهي روايته في 83 وحدة سردية مرقّمة، ويسند عملية الروي إلى راوٍ شريك، يروي الأحداث التي انخرط في بعضها أو شهد عليها، ويُشكّل الشخصية المحورية في الرواية والشاهد على مرحلة تاريخية في طور الأفول. الراوي بدأ الرواية في السابعة عشرة من العمر، وعاد ليكملها بعد خمسين عاماً، لكنّه يفعل ذلك بعيني ابن السابعة عشرة. يجمع الراوي بين إقامته في الحيّ القديم من موريا الغربية، وتعلّقه بالمكان، وتتجاور فيه مجموعة من المتضادّات؛ ينشأ في بيئة عنيفة ويرفض ممارسة العنف، يعيش في حيٍّ مضطرب ويُقبل على طلب العلم، يصادق كميلاً وأرميا، يعيش على أرض الواقع، ويتمسّك بوهم فتاة الشرفة. وبذلك، نكون إزاء شخصية مركّبة، بسيطة على عمقها، مثالية على واقعيتها، شاهدة على الأحداث وغير منخرطة فيها.

تحفّ بهذه الشخصية المحورية شخوص أخرى ثانوية، تتعالق معها في علاقات أبوّة أو أمومة أو صداقة. يحضر الأب في مسالمته واعتداله، وتبرز الأمّ في تعلّقها بأولادها، ونتعرّف إلى كميل في سفره إلى فرنسا، ويطالعنا أرميا المهجوس بمجزرة الكنيسة. وهكذا، تكون جميع الشخوص المذكورة مفارقة للواقع الذي تعيش فيه، رافضة للعنف والتطرّف. من هنا، تبرز الحاجة إلى تدخّل خارجي، يُخرجها من الانقسام، ويُوحّد شطري المدينة، وهو ما يتحقّق في نهاية الرواية بالهزّة الأرضية، فتُعلن نهاية مرحلة الخصام، وتُؤذن ببداية مرحلة السلام والوئام. وهكذا، تنتهي الرواية بمنظور إيجابي مفتوح على المستقبل.

تتعدّد في "الشتاء الكبير" مصادر الروي، وطبقات السرد، وأنماط الكلام؛ فيُصدر الراوي عن أخبار الأمّ، ورسائل كميل، واستقصاءات أرميا، وما يتناهى إليه من أخبار، وما يتواتر من ذكريات، وما يعاينه بنفسه. ويجاور بين سرد الأحداث، ووصف الطبيعة، وتحليل الشخوص، وتحديد المواقع، وعرض الأفكار، ودراسة الظواهر. ويتحرّك بين السرد والوصف واليومية والرسالة والحلم وغيرها، ما يجعلنا إزاء نصٍّ متنوّع على كلّ المستويات، يعكس ثقافة الكاتب المتنوّعة، وكفاءته في استخدام أدواته، ونظرته الثاقبة في ما يتعدّى الظواهر المدروسة، وتحليله العميق للأحداث، ما يجعل "الشتاء الكبير" يروي أرض السرد اللبنانية التي يدهمها الجفاف في مراحل معيّنة من تاريخها.

مشاركة المقال: