الخميس, 30 أكتوبر 2025 10:04 PM

سوريا بعد الأسد: خارطة طريق لإعادة بناء جهاز أمني وطني يخدم الشعب لا يقمعه

سوريا بعد الأسد: خارطة طريق لإعادة بناء جهاز أمني وطني يخدم الشعب لا يقمعه

تشهد سوريا، في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، منعطفًا حاسمًا يتطلب إعادة بناء شاملة لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية. هذه العملية تتجاوز مجرد تغيير الأسماء أو الوجوه، بل تهدف إلى وضع أسس وهيكليات جديدة تضمن الانتقال من منظومة قمعية تخدم النظام إلى منظومة وطنية تخدم الشعب وتحمي سيادة القانون وحقوق الإنسان. الهدف الأسمى هو إرساء دعائم جهاز أمني حديث، رشيق ومتخصص، قادر على التعامل مع التحديات المعاصرة وتجاوز إرث القمع والفساد الذي ميز الأجهزة الأمنية السابقة.

الأسس الفكرية والقواعد التوجيهية لإعادة الهيكلة

تستند عملية إعادة الهيكلة في سوريا ما بعد الأسد إلى مجموعة من المبادئ الأساسية التي تهدف إلى بناء جهاز أمني عصري وفعال. هذه الأسس تشكل الإطار العام الذي يوجه جميع التغييرات الهيكلية والإجرائية، وهي:

  1. إحلال سيادة القانون وحقوق الإنسان من خلال:
    • أ- التخلي عن الممارسات القمعية: الركيزة الأساسية لأي إصلاح أمني هي التأكيد على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. وهذا يعني التخلي عن الممارسات القمعية والتعسفية التي كانت سمة مميزة للأجهزة الأمنية في العهد السابق، بحيث تلتزم الأجهزة الجديدة بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وأن تكون جميع تصرفاتها خاضعة للمراجعة والمساءلة القانونية. هذا المبدأ لا يقتصر على الجانب النظري بل يتطلب تطبيقًا صارمًا في كل المستويات من أعلى الهرم القيادي إلى أصغر العناصر.
    • ب- الشفافية والمساءلة: لضمان سيادة القانون لا بد من تعزيز الشفافية في عمل الأجهزة الأمنية وتوفير آليات واضحة للمساءلة. وهذا يشمل إنشاء إدارات للشكاوى والمحاسبة وتوثيق جميع الإجراءات وتمكين الرقابة المدنية على عمل هذه الأجهزة. والهدف هو منع تكرار تجاوزات الماضي وبناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات الأمنية.
  2. تفكيك الإرث الأمني القديم ودمج الأجهزة من خلال:
    • أ- إلغاء الكيانات القمعية: أحد أهم الإجراءات في عملية إعادة الهيكلة هو تفكيك الأجهزة القمعية السابقة وإزالة أسمائها وأدوارها المرتبطة بالقمع والخوف مثل أمن الدولة والأمن السياسي والمخابرات الجوية والأمن العسكري. هذه الخطوة ضرورية لمحو الصورة النمطية السلبية وبدء صفحة جديدة في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، كما يتم جمع السلاح من ضباط الجيش النظامي السابق عبر مراكز تسوية ومحاسبة المتورطين في انتهاكات جسيمة.
    • ب- دمج وتوحيد الهيئات الأمنية: يجب أن تتجه الرؤية الجديدة نحو دمج و توحيد قيادات الشرطة ومديريات الأمن العام في هيكل موحد تحت سلطة مركزية. هذا الدمج يهدف إلى تحسين كفاءة العمل الأمني وتقليل الازدواجية في الصلاحيات التي كانت تؤدي إلى الفساد والتداخل بحيث يتم تعيين مسؤول واحد لتمثيل وزارة الداخلية في كل محافظة يتبع له الأمن والشرطة معًا مما يعزز الرقابة والمساءلة.
  3. تحديث وتطوير الأداء الأمني من خلال:
    • أ- بناء جهاز أمني “رشيق” ومتعدد المهام: تتطلب المرحلة الجديدة بناء جهاز أمني “رشيق” متعدد المهام يتجاوز النماذج الكلاسيكية القديمة. وهذا يشمل تحديث البنية المؤسسية وتأطير عملها بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الراهنة مع التركيز على الكفاءة والاستجابة للمتغيرات الأمنية والإدارية، وتعتمد هذه الرؤية على عقيدة أمنية جديدة ترتبط بالدستور والمجلس التشريعي.
    • ب- استحداث إدارات متخصصة: لمواجهة التحديات الأمنية المعاصرة يجب أن يتم استحداث إدارات أمنية متخصصة مثل إدارة مكافحة الإرهاب وإدارة مكافحة المخدرات وإدارة أمن الطرق وإدارة حرس الحدود، بالإضافة إلى ذلك يتم التركيز على إدارات متقدمة في مجالات الاتصالات والشبكات المعلوماتية والأمن السيبراني لرفع كفاءة الرصد والوقاية من الجرائم الحديثة.
  4. إعادة تأهيل وبناء الثقة المجتمعية من خلال:
    • أ- التمييز بين الأفراد: تتضمن عملية إعادة الهيكلة تصنيف العاملين في الأجهزة السابقة بحيث يتم محاسبة الأفراد المتورطين في انتهاكات جسيمة، بينما يتم تأهيل وإعادة إدماج الأفراد ذوي الرتب الدنيا الذين شاركوا تحت ضغوط أو لأسباب اقتصادية، وهذا يتم عبر برامج تدريبية ونفسية لدعم الاستقرار الاجتماعي وإعادة بناء الثقة.
    • ب- تعزيز العلاقة المدنية: الهدف هو تحويل العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع من علاقة سيطرة وخوف إلى علاقة أمنية مدنية تقوم على الحماية والخدمة، ويتم ذلك من خلال تحسين شفافية العمل الأمني وتوفير قنوات للمساءلة والاستفادة من تجارب دول أخرى رائدة في بناء قطاع أمني يركز على خدمة المواطن.

الهيكلية المقترحة للأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية

يجب أن تتبنى سوريا الجديدة هيكلية تنظيمية تهدف إلى إنشاء جهاز أمني متكامل فعال وبعيد عن المركزية المفرطة والتداخل في الصلاحيات.

  1. وزارة الداخلية المركزية: قيادة موحدة ومنسقة

    إعادة تنظيم وزارة الداخلية: تُعد وزارة الداخلية المحور الأساسي للأمن الداخلي لأنها ستكون مسؤولة عن إدارة وقيادة جميع الأجهزة الأمنية الداخلية مع تعزيز صلاحياتها لتتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة، ويتم تمثيل الوزارة في كل محافظة بمسؤول واحد يتبع له الأمن والشرطة معًا لتوحيد جهود تطبيق القانون.

    إدارات فرعية متخصصة: تحت مظلة وزارة الداخلية يجب أن يتم إنشاء إدارات فرعية متخصصة لمعالجة مختلف الجوانب الأمنية والإدارية مثل:

    • – الإدارة العامة للشؤون المدنية: مسؤولة عن التنسيق اليومي والحفاظ على النظام العام وخدمات المواطنين.
    • – إدارة الشكاوى والمحاسبة: لضمان الرقابة الداخلية ومعالجة أي تجاوزات أو شكاوى من المواطنين.
    • – إدارة المباحث الجنائية: للتعامل مع الجرائم الجنائية والإرهاب والتحقيقات الجنائية.
    • – إدارة مكافحة المخدرات: للتركيز على التهديدات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن تجارة المخدرات وتهريبها.
    • – إدارات المرور والسجون والهجرة: لتنظيم هذه القطاعات الحيوية بما يتوافق مع المعايير الدولية.
    • – إدارات تقنية جديدة: مثل شؤون الاتصالات والشبكات المعلوماتية والأمن السيبراني لتعزيز القدرات التقنية في الرصد والوقاية.
  2. جهاز الأمن الداخلي السوري: دمج وتنسيق

    يتم دمج جهازي الشرطة والأمن العام تحت مظلة “قيادة الأمن الداخلي” لتجنب التفتيت والتداخل ويجب أن تضم هذه القيادة قوات النخبة التي تحمي المؤسسات الحساسة مثل القصر الرئاسي وتشارك في دوريات أمن عام وحواجز، بالإضافة إلى الوحدات الأمنية في المناطق الجغرافية المختلفة والهدف من ذلك هو توحيد الجهود الأمنية وضمان استجابة سريعة وفعالة لأي تهديدات.

  3. جهاز الحدود والشرطة العامة: حماية السيادة

    يتم دمج وإعادة تنظيم حرس الحدود ودوائر الأمن العام لضمان سيطرة الدولة على الحدود والمراقبة الداخلية، وهذا الجهاز يلعب دورًا حيويًا في منع التسلل وتهريب الأسلحة والمخدرات وحماية سيادة الدولة.

  4. جهاز الاستخبارات العامة: رؤية جديدة للأمن الخارجي

    يجب إعادة تشكيل جهاز الاستخبارات العامة كبديل للفروع القديمة التي كانت تتسم بالقمع والاستقلالية عن الرقابة وهذا الجهاز سيعمل تحت قيادة مركزية ويتولى التنسيق الاستخباراتي الخارجي مع التركيز على مراقبة التهديدات الإقليمية والحدودية، ويشمل إدارات متخصصة في الاستخبارات السيبرانية والشبكات المعلوماتية لمواجهة التجسس الخارجي، ويلتزم هذا الجهاز الجديد بالشفافية والمساءلة ويرتبط بالأمن الداخلي لتجنب التفتيت.

التحديات الرئيسة وخطوات التنفيذ

لا تخلو عملية إعادة الهيكلة من تحديات كبيرة تتطلب تخطيطًا دقيقًا وتنفيذًا مدروسًا. تحديات ما بعد الأسد:

  1. تعدد الفصائل وتوحيد السلاح:

    أحد أكبر التحديات هو وجود فصائل مسلحة متعددة وتفاوت الولاءات، وهو ما يتطلب دمج هذه الفصائل وتنظيمها ضمن إطار وطني تحت مظلة وزارتي الدفاع والداخلية ووضع معايير صارمة لوقف الاقتتال الداخلي وضبط السلاح، وهذا بحاجة إلى عملية تفكيك للفصائل ونزع أسلحتها وإعادة دمج الأفراد المؤهلين في القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية الجديدة.

  2. بناء الثقة المجتمعية:

    استعادة ثقة المواطنين في الأجهزة الأمنية تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرًا، ويجب أن يتم ذلك من خلال ضبط ممارسات الجهاز وتوفير قنوات للمساءلة والمصالحة والتركيز على خدمة المجتمع بدلًا من قمعه والاستفادة من تجارب دول أخرى في بناء شرطة مجتمعية يمكن أن يكون مفيدًا هنا.

  3. خطوات عملية ومراحل تنفيذية
    • أ‌- التوثيق والالتزام الدولي: تبدأ عملية التنفيذ بوضع إطار قانوني وتشريعي يضمن الامتثال للحقوق الدولية والمعايير العالمية للأمن، وهذا يشمل صياغة قوانين جديدة وتعديل القديمة لتعكس المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ويجب أن يكون هناك التزام واضح من القيادة السياسية بهذه المبادئ.
    • ب‌- إطار زمني وتشكيل لجان: يجب تحديد أطر زمنية واضحة لعمليات الدمج وإعادة التنظيم مع تشكيل لجان إشرافية ولجان تدقيق ومساءلة مستقلة لمتابعة التقدم وضمان النزاهة وهذه اللجان يمكن أن تضم خبراء محليين ودوليين لتقديم الدعم الفني والمشورة.
    • ج- التحول التدريجي: يفضل أن يكون التحول تدريجيًا بدءًا بالمناطق الأكثر استقرارًا والتوسع جغرافيًا بناء على القدرات الأمنية والمدنية، وهذا يسمح باختبار النماذج الجديدة وتعديلها قبل تطبيقها على نطاق واسع.
    • د- التقاعد والتأهيل: يجب وضع آليات واضحة للتقاعد المبكر للأفراد الذين لا يمكن إعادة تأهيلهم أو الذين ثبت تورطهم في انتهاكات، وفي المقابل يجب توفير برامج تدريب وتأهيل مكثفة للكوادر الجديدة وللأفراد الذين يمكن دمجهم في الأجهزة الجديدة مع التركيز على الكفاءة المهنية وأخلاقيات العمل.
    • هـ- الشفافية والتنسيق الدولي: تعزيز الشفافية في جميع مراحل العملية وتبادل الخبرات مع الدول والمنظمات الدولية يمكن أن يساعد في ضمان تحقيق أفضل الممارسات وتوفير الدعم اللازم فالتعاون مع دول الأوربية، وكذلك المنظمات الدولية يمكن أن يثري هذه العملية.

إن عملية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد تُمثل تحولًا تاريخيًا وحاسمًا نحو بناء دولة حديثة تستند هذه العملية إلى أُسس ومبادئ راسخة في سيادة القانون وحقوق الإنسان، كما تهدف إلى تفكيك الإرث القمعي وتوحيد الأجهزة وتطوير أدائها بما يتناسب مع التحديات المعاصرة ومع أن الطريق محفوف بالتحديات فإن الالتزام بالشفافية والمساءلة وبناء الثقة المجتمعية إلى جانب التعاون الإقليمي والدولي يمكن أن يمهد الطريق لمستقبل أمني مستقر ومزدهر لسوريا.

مشاركة المقال: