بعد معاناتي من صداع حاد بسبب تحليق طائرة مسيّرة في سماء بيروت، والتي سرعان ما تبعها ضجيج صهاريج المياه ودراجات نارية صاخبة، أدركت حجم المشكلة. فالأمر لا يتعلق بصهاريج المياه بقدر ما يتعلق بأزمة المياه، ولا بالمولدات الكهربائية بل بأزمة الكهرباء، ولا بأبواق السيارات بل بغياب تطبيق قوانين السير، والأهم، ليست المشكلة في المسيّرات بل في الضجيج المتفاقم.
منال، في حديثها لـ "النهار"، تقول: "عندما تظهر طائرة من دون طيار في السماء، يتغير سلوكي وأصبح أقل تفاعلاً وأكثر لامبالاة. أعاني من نوبات ذعر خفية، ضيق في الصدر، صعوبة في التنفس، صداع، صرير في الأسنان، قلق دائم، واضطرابات في وظائف الجسم مثل مشاكل الهضم".
وتضيف: "أستخدم سماعات عزل الضوضاء للتخلص من الأصوات المزعجة، لكن عقلي يتخيل احتمالات وقوع هجوم وشيك، مما يفرض عليّ البقاء في حالة تأهب دائم، مع خطة طوارئ للهروب من المنزل". وتؤكد منال أن أصوات المسيّرات تذكرها بآلام الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
لوجين تندد بالتلوث السمعي الناتج عن المولدات الكهربائية، صهاريج المياه، وأبواق السيارات، والإزعاج المتعمد من سائقي الدراجات النارية، قائلة: "في قريتي، يعتبر المراهقون الدراجة النارية لعبة، فيُعدّلونها لتُصدر أصواتاً صاخبة. أين الأهل من ذلك؟ نحن لسنا مضطرين إلى تحمل هذا الإزعاج اليومي المستمر".
أما عايدة، فتعرب عن انزعاجها من عمل صهاريج المياه في ساعات الليل المتأخرة، رغم تفهمها للأزمة الأساسية المتمثلة بانقطاع المياه.
أبو مصطفى، سائق صهريج مياه، يوضح: "يومي مزدحم بالطلبات، وغالباً ما أتجاوز إرهاقي لتلبية حاجات الناس، حتى ليلاً. لكن أحد السكان منعني مرة من متابعة عملي لأنه كان يخشى أن يستيقظ طفله من النوم".
رئيس دائرة السير برنارد أبي عكر، أوضح أن القانون اللبناني يحدد أوقات عمل الشاحنات، وهي لا تشمل ساعات الليل إلا في حالات استثنائية يُمنح فيها إذن خاص من وزارة الداخلية. أما بالنسبة إلى صهاريج المياه، فأشار إلى أن التغاضي عن حركتها في أوقات متأخرة يعود إلى الطابع الضروري لخدمتها وحاجة المواطنين الملحة.
المعالجة النفسية هزار الزدجالي توضح أن العيش في بيئات يعمّها الضجيج المزمن يضع الجهاز العصبي في حالة تأهّب مستمر، مما يؤدي إلى اضطرابات في النوم، تشوش في التركيز، تهيّج، قلق، نوبات غضب مفاجئة، وإنهاك عصبي واختلال في المزاج. وتضيف أن هذا الإجهاد يمتد إلى الجسد عبر سلسلة من التفاعلات الفيزيولوجية الضارة، مثل الالتهابات، الإجهاد التأكسدي، وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري والسكتات الدماغية. أما عند الأطفال، فالتأثير قد يظهر في ضعف الإدراك والنمو العاطفي.
تشدد الزدجالي على أن الجسم لا يميز بين الخطر الحقيقي والضوضاء المرتفعة، وتنصح بخطوات بسيطة لبناء مساحات من الهدوء الداخلي: اعتماد روتين تهدئة يومي، استخدام سمّاعات عزل أو موسيقى بيضاء، قضاء وقت في الطبيعة، تفريغ التوتر عبر الحركة، واللجوء إلى تمارين تنظيم الجهاز العصبي.
الطبيب النفسي أدهم العدوي يشدد على أن الضجيج اليومي هو شكل خفي من الضغط النفسي المتراكم، ويؤثر على العلاقات الزوجية، يسبب تقلبات مزاجية، صعوبة في النوم، توتراً مزمناً، ويؤدي في بعض الحالات إلى العزلة أو الاكتئاب. وينصح بالتحدث عن الضيق، أخذ استراحة من المحيط، تجنب الشاشات، تقليل الإضاءة والضوضاء قبل النوم، وشرب كوب من المياه عند التوتر.
ويختم العدوي بالقول: "ما تسكُت عنه كل يوم… سيعبّر عنه جسدك ونفسيتك لاحقاً، ولكن بصوت أعلى".