الجمعة, 19 سبتمبر 2025 05:47 PM

اتفاق أمني سوري إسرائيلي قادم: إعادة رسم خريطة النفوذ في الجنوب السوري

اتفاق أمني سوري إسرائيلي قادم: إعادة رسم خريطة النفوذ في الجنوب السوري

يكفي يوم واحد لتغيير زاوية الرؤية في دمشق وتل أبيب وواشنطن. زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى العاصمة الأميركية لمناقشة الاتفاق والعقوبات، وتصريحات الرئيس أحمد الشرع حول قرب ظهور النتائج، واجتماع لندن الثلاثي بين (الشيباني– رونالد ديرمر– توم براك) لساعات، تشير إلى أن الملف انتقل من التسريبات إلى حافة القرار.

لم يعد الجنوب السوري مجرد منطقة توتر، بل ساحة لإعادة توزيع النفوذ عبر التفاوض، حيث تقاس مكاسب الأطراف بمدى سحب السلاح وتجميد الجبهات وفتح أبواب الاعتراف. في الخلفية، تسعى إدارة ترامب لتحقيق "صورة سياسية" قبل نيويورك، عبر ربط المفاوضات الأمنية برفع العقوبات عن سوريا. السيناتور ليندسي غراهام يوضح المعادلة: تقدم في اتفاق الجنوب، وموقف سوري واضح ضد "داعش"، مقابل نقاش جاد حول "قيصر". بالتوازي، أعيد تنظيم الفريق الأميركي للملف السوري، مما يدل على أهمية القناة السياسية.

إسرائيلياً، تتحرك المقاربة على مستويين: خريطة تفاوضية "قصوى" وخطوات ميدانية لتحويل التفاوض إلى أمر واقع. المقترح الذي كشفته مصادر إعلامية غربية يقوم على تقسيم الجنوب إلى ثلاث طبقات أمنية على غرار سيناء، مع منطقة حظر طيران من جنوب غرب دمشق حتى خط الفصل، وتمديد العازل داخل العمق السوري، والإبقاء على موطئ قدم في جبل الشيخ (حرمون). والأهم، الإصرار على ممر جوي عملياتي عبر الأجواء السورية يتيح لإسرائيل هامش ردع بعيد المدى في مواجهة إيران. لكن تل أبيب لا تنتظر التوقيع لتحقيق المكاسب، فمن إنزال جبل المانع إلى توغلات القنيطرة ورفع العلم على تلال حساسة، ومن إدارة "الورقة الدرزية" إلى فرض معادلة "السلاح الثقيل خارج الجنوب"، تُكرَّس الوقائع على الأرض لتكون سقف أي تفاهم لاحق. يرى الباحث علي جديد أن إسرائيل تبرز كلاعب أساسي في بناء سوريا الجديدة، وتطالب بترتيبات أمنية تعكس دورها في إسقاط النظام السابق، محذراً من أن إسرائيل لا تحترم اتفاقاتها عندما تتغير الظروف.

في المقابل، تتصرف دمشق بمنطق الضرورة السياسية: اتفاق محدود يعيد الهدوء جنوباً، يحفظ المجال الجوي ووحدة الأرض تحت مظلة أممية، ويضع خطوط اشتباك واضحة، مقابل انسحاب تدريجي من مناطق التقدم الإسرائيلي بعد كانون الأول/ ديسمبر الماضي. الشرع يعتبر الاتفاق "ضرورة"، لكنه يشير إلى أن الجولان خط أحمر. عملياً، بدأت الحكومة بسحب السلاح الثقيل من درعا والقنيطرة منذ أسابيع، وربط مباشر بين الاستقرار الداخلي وجذب الاستثمارات: لا انتعاش من دون وقف الغارات والتوغلات وإقفال "ثغرة الجنوب" أمام أي تصعيد. اتفاق السويداء وما عُرف بـ"النقاط السبع" لم يعد تفصيلاً إنسانياً بل ركيزة في هندسة الجنوب. اللجنة القانونية العليا في السويداء رفضت "إعادة إنتاج المركزية" وذكّرت بـ"حق تقرير المصير"؛ اعتراض يكشف هشاشة الشرعية المحلية، لكنه يُظهر في الوقت ذاته كيف باتت ترتيبات الجنوب مقياساً لمتانة الحكم الجديد. "اتفاق السويداء ليس مجرد خطوة أمنية، بل أداة لإعادة ترتيب المشهد الداخلي عبر إزاحة منافسين وتكريس صورة سلطة مركزية جديدة"، يقول جديد.

واشنطن تجمع الخيوط: رعاية المسار الأمني، تنظيم لقاءات لندن–باريس–باكو، فتح أبواب الكابيتول أمام الشيباني لمناقشة رفع العقوبات، والضغط لدمج مسارات الداخل (السويداء والإدارة شمال شرق سوريا) ضمن إطار مركزي. الهدف القريب: إعلان اختراق يمكن عرضه في نيويورك. الهدف الأبعد: تثبيت الاستقرار على قاعدة "هدوء الجنوب"، ومن ثم جرّ الأطراف نحو ترتيبات أوسع دون الحاجة إلى "سلام شامل" الآن. الديبلوماسي المنشق بشار الحاج علي يرى أن ما يجري هو إشارات على خطوط تفاوض مستقبلية، لا خطوات نهائية، ويلخص المسار بقناتين متوازيتين: "عمليات ميدانية لضبط الاشتباك، وتفاهمات محدودة للاستقرار النسبي؛ لا أحد جاهزاً لسلام شامل بعد".

تركيا، الحاضرة في دمشق الجديدة بحكم التحالف السياسي والاقتصادي، تقارب الملف من زاويتين: ضمان ألا يتحول الجنوب إلى "نافذة تهديد" تركية عبر تموضعات معادية، ومنع أي صيغة أمنية إسرائيلية تمتد منطقياً لتقييد أنقرة في الشمال. يتقاطع ذلك مع مسعاها الأهم: ترتيب العلاقة بين المركز ومناطق الشمال الشرقي لمنع قيام كيان انفصالي، وتخفيف الاحتكاك مع الحليف الأميركي. لهذا تبدو أنقرة مشجعة لاتفاق يجمّد الجنوب مقابل إبقاء يدها طليقة على الملفات الحيوية شمالاً.

الزاوية الروسية أقل صخباً لكنها غير غائبة. يرى الباحث وائل علوان أن التصالح مع موسكو قد يُسهم في تحييد الموقف الإسرائيلي وتعزيز الاستقرار. بكلام آخر، تُدار العلاقة مع روسيا كضامن "منخفض الصوت" يملك أدوات تعطيل في مجلس الأمن وفي الساحل، ويمكن استحضاره عند الحاجة لموازنة دقيقة. الحاج علي يختصر موقع موسكو بأنه "عنصر مرن محدود القدرة على فرض ترتيبات حاسمة"، لكنه يظل ورقة لازمة في معادلة الضغط المتبادل على إسرائيل.

تقاطعات الجنوب لا تكتمل بلا الورقة الدرزية. إسرائيل تتعامل مع السويداء كـ"مِقياس تهديد/فرصة": تدعم ميليشيات محلية وتُشجع مطالب الحكم الذاتي حيناً، ثم تقبل –حين يناسبها– بانتشار شرطة داخلية سورية برعاية دولية. الأردن أعلن صراحةً أن "خريطة طريق السويداء تلبي احتياجات إسرائيل الأمنية". في المقابل، تريد دمشق نزع فتيل السويداء كي لا تتحول إلى ثقب أسود يبتلع الشرعية الجديدة. وهنا يعيد علوان التأكيد: "نزع السلاح الثقيل في الجنوب صار تحصيلاً حاصلاً؛ ما تريده الحكومة عملياً هو تحييد الدور الإسرائيلي وإقفال باب التصعيد، لأن رأس المال لا يدخل مع ظل الغارات".

يبقى الجولان علامة فاصلة. الشرع يلمّح إلى خطوط 1974 كمرجعية، فيما تضع إسرائيل "السيادة على الجولان" خارج النقاش، وتتمسك بجبل الشيخ. أي صيغة نهائية ستتجنب هذه "القنبلة الرمزية" الآن، لكنها ستبقى مؤجَّلة تُستحضر كلما احتاج طرف إلى رفع السقف. في المحصلة، يتقدّم الاتفاق الأمني كحلٍّ مرحلي ضروري لوقف النزف، لكنه يفتح امتحاناً مزدوجاً: هل يُنتج شرعية داخلية في جنوب هشّ؟ وهل تلتزم إسرائيل بأوراقها حين تتبدل الظروف؟ في النهاية، لا يبدو أن الاتفاق الأمني بين دمشق وتل أبيب سيُغلق ملف الجنوب بقدر ما يعيد فتحه على أسس جديدة، تعكس توازنات إقليمية ودولية أكثر من كونها تسوية وطنية خالصة. فهو يمنح واشنطن فرصة لتسويق اختراق ديبلوماسي، ويكرّس لتل أبيب مكاسبها الميدانية، ويفتح لأنقرة وموسكو مجالات مناورة، بينما تحاول دمشق تحويله إلى مدخل للاعتراف الدولي. لكن التجارب التاريخية تجعل السؤال مشروعاً: هل سيكون هذا الاتفاق مدخلاً لتسوية أوسع، أم مجرد ترتيبة موقتة تُعيد إنتاج الهشاشة تحت غطاء دولي؟

مشاركة المقال: