الثلاثاء, 19 أغسطس 2025 07:44 PM

معرض أيقونات القدس في بيروت: رحلة في تاريخ الصمود والانتماء الفلسطيني

معرض أيقونات القدس في بيروت: رحلة في تاريخ الصمود والانتماء الفلسطيني

بعد طول انتظار، تتاح لبيروت فرصة استكشاف الأيقونة الفلسطينية المقدسية من خلال معرض «كما في السماء كذلك على الأرض»، الذي افتتح مؤخرًا في «دار النمر للفن والثقافة» ويستمر حتى 17 كانون الثاني (يناير) 2026.

يضم المعرض مجموعة من الأيقونات واللوحات التشكيلية والتذكارات من بلاد الشام والقدس، وقد تولى الباحث محمود الزيباوي مهمة البحث والتوثيق للمعرض.

لفهم أهمية أيقونات مدرسة القدس، يجب العودة إلى زمن المجتمعات المسيحية الأولى، وتحديدًا إلى «كاتدرائية القديس يعقوب للأرمن الأرثوذكس»، بوابة الحي الأرمني في البلدة القديمة. تعتبر هذه الكاتدرائية أقدم كنيسة في العالم، ويعود تاريخها إلى القرن العاشر.

تزدان جدران الكاتدرائية برسوم أيقونية تصور حياة مريم ويسوع، من الميلاد إلى العنصرة. كانت الأيقونات في الأزمنة المسيحية الأولى وسيلة لنقل الإيمان إلى من لا يعرفون القراءة، حيث تسمح بـ «قراءة» قصة الكتاب المقدس المرسومة على اللوحات الخشبية.

يعود رسم الأيقونات الحديثة إلى التراث البيزنطي، الذي يعد الشكل الرئيسي لفن الرسم لدى الفلسطينيين منذ القرن الثامن عشر. تتلمذ الفنانون المنتمون إلى مدرسة القدس على أيدي الرهبان اليونانيين الذين خدموا في الأراضي المقدسة.

استمر هذا التراث على أيدي الأتباع الفلسطينيين للكنيسة الأرثوذكسية، الذين نمت موهبتهم بفضل احتكاكهم برسّامي الأيقونات الروس الذين استقروا في فلسطين.

عرفت الأيقونات التي رسمها أتباع مدرسة القدس رواجًا كبيرًا في بلاد الشام، فسعى الحجاج إلى اقتناء الأيقونات الصغيرة كتذكارات يحملونها معهم إلى بلدانهم. أما الأيقونات الأكبر حجمًا، فكانت تخصص لتخليد أحد المواقع المقدسة في فلسطين.

انتشرت سمعة رسامي «مدرسة القدس» في كل أنحاء بلاد الشام في القرن التاسع عشر، وزينت أيقوناتهم أديرة نائية في لبنان وسوريا.

على الرغم من أن هذه الأيقونات تتبع التراث البيزنطي، إلا أن التفاصيل التي طورتها مدرسة القدس جعلت هذا الفن محليًا ووطنيًا. فالعيون اللوزية الشكل والوجوه المستديرة لأحد القديسين تعيدنا إلى ملامح البطل الشعبي العربي في المنمنمات الإسلامية والفنية الدارجة، وفقًا لما لاحظه التشكيلي الفلسطيني الراحل كمال بلاطة.

تحول سرج حصان مار جرجس (الخضر) على أيدي رسام مقدسي إلى لون قرمزي مذهب بنجوم تناسب عمامة سلطان عثماني، بدلًا من اللون الأحمر المألوف. وفي بعض الأحيان كانت تستخدم الأحرف اليونانية عنوانًا للأيقونة، بينما باقي الكلمات بالعربية.

نشأ تقليد ربط اسم الرسام بمدينة القدس مع الفنان حنا القدسي، الذي كان يوقع على لوحاته على هذا النحو: أولًا الاسم حنا، ثم الكنية (القدسي) للدلالة على أنه من القدس.

مشى الرسامون اللاحقون على خطاه في القرن التاسع عشر، فأضافوا كنية القدسي أيضًا إلى أسمائهم، ومن بينهم ميخائيل مهنا القدسي، ويوحنا صليبا القدسي، ونقولا ثيودوروس القدسي، وإسحق نقولا الأورشليمي.

في مطلع القرن العشرين، كان المقدسيان نقولا الصايغ (1863- 1942) وخليل الحلبي (1889- 1964) الرائدين الرئيسيين اللذين تمكنا بفضل أساتذتهما الروس من التحول من اللوحة الدينية إلى اللوحة «العلمانية»، وكان لتأثيرهما أثر حاسم في تطور الفن الفلسطيني.

في العقود الأولى من القرن العشرين التي شهدت خروج فلسطين من العباءة العثمانية، بدأت الحياة الفنية والثقافية تقع تحت تأثير الهيمنة الغربية بسبب الانتداب البريطاني.

كانت شائعة رؤية رسامين من البعثات التبشيرية المسيحية الغربية، أو من اليهود المستوطنين، يحملون عدة الرسم وحوامل اللوحات ليرسموا في الهواء الطلق.

تعرف بعض الفلسطينيين إلى الأسلوب الجديد في الرسم وجربوا استخدام الوسائط المستوردة. وعلى عكس نظرائهم في الدول العربية المجاورة الذين كانوا على صلة بأكاديمية الفنون الجميلة المرموقة في القاهرة منذ عام 1908 أو في بيروت منذ عام 1937، فإن الفلسطينيين الذين حاولوا الرسم، وهم قلة، قد علموا أنفسهم بأنفسهم.

طور فنانان موهوبان أسلوبيهما الخاصين باستخدام الأدوات الجديدة في أعمالهما الفنية، وهما رسام الأيقونات خليل حلبي والحرفي التراثي في الفن الإسلامي جمال بدران من حيفا.

إذا كان الدخول إلى المعهد الفني المحلي الأول في القدس، «معهد بتسلئيل» الصهيوني، الذي أسسه مستوطنون يهود عام 1906 محظورًا على غير اليهود، فإن معظم الجيل الأصغر من الطلاب الفلسطينيين غير المدربين تعلموا الرسم عبر الملاحظة والتجربة القاسية، ومن بينهم جمال بياري، وخليل بدوية، وفيصل الطاهر من يافا، ومبارك سعد وداود زلاطيمو من القدس.

حظيت ثلاث نساء من هذا الجيل بتدريب فني محدود وهن زلفة السعدي (1905 – 1988) ونهيل بشارة (1919- 1997) وصوفي حلبي (1906 – 1998). درست السعدي الفن في محترف نقولا الصايغ، وبشارة في إيطاليا وحلبي في فرنسا. وعلى خطى معلمها الصايغ، رسمت زلفة السعدي أيقونات لشخصيات وطنية، ورسمت بشارة شوارع القدس والأزياء التقليدية، فيما رسمت حلبي الطبيعة والعواصف وشجر الزيتون الذي يغطي ريف القدس.

مع نشوء كيان الاحتلال، وجد الفنانون الفلسطينيون أنفسهم يواجهون الإشكاليات نفسها التي يواجهها شعبهم: إما باتوا أقلية في وطنهم الأصلي فلسطين، أو هجروا إلى البلدان المجاورة، فأحبطت المأساة التاريخية المواهب الفنية الواعدة، بل قتل بعض الفنانين، من بينهم خليل بدوية وفيصل الطاهر في معركة يافا. وبحلول نهاية 1950، توفي الفنان جمال بياري في بيته فقيرًا معدمًا، تاركًا إرثًا فنيًا قيمًا ولوحات لا تنسى لأحياء حيفا.

توجد اليوم زاوية خاصة بفن الأيقونة في فلسطين متمثلة بـ «مركز بيت لحم للأيقونات» في البلدة القديمة من مدينة بيت لحم التاريخية. إنها المدرسة الوحيدة في المنطقة العربية التي تهدف إلى جمع الراغبين في تعلم فن الأيقونة للحفاظ على الإرث الفني والثقافي والحضاري والديني في الأراضي المقدسة التي لا بد من أن ينقشع عنها ظلام الاحتلال في يوم غير بعيد. زيارة المعرض في «دار النمر» فرصة للتعرف إلى هذا الفن الكبير الذي ينضح بروح فلسطين.

* «كما في السماء كذلك على الأرض: أيقونات من القدس»: حتى 17 كانون الثاني (يناير) 2026 ـــ «دار النمر للفن والثقافة» (كليمنصو ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01367016

مشاركة المقال: