بعد رحلة درامية طويلة أثارت جدلاً واسعاً على مستوى العالم، اختتمت منصة HBO الأميركية قبل أشهر عرض الموسم السادس من المسلسل التلفزيوني الشهير «حكاية سبيّة» (The Handmaid’s Tale).
بهذا، رسخ العمل مكانته في تاريخ الإنتاج المرئي للقرن الحادي والعشرين كظاهرة ثقافية واسعة، ونقد لاذع للتطرفات الدينية وهياكلها البطريركية المؤدلجة المتخصصة في قهر النساء، وذلك باستخدام أدوات الدراما البليغة.
يصور هذا العمل، المعروف برمزية الرداء الأحمر والقبعة البيضاء المفروضة على النساء في إمارة جلعاد الدينية المتخيلة، عالماً ثيوقراطياً قمعياً متطرفاً تأسس على أنقاض الولايات المتحدة الأميركية بعد انقلاب نفذه متطرفون مسيحيون.
في جلعاد، تُسلب النساء حقوقهن الأساسية كمواطنات، فيُمنعن من القراءة والكتابة، ومن امتلاك الأموال أو العمل، ويُقسمن إلى فئات اجتماعية صارمة بناءً على قدرتهن الإنجابية. وهكذا، تُسبى الخصيبات منهن، ويوزّعن كالماشية على منازل السادة قادة النظام وزوجاتهم العقيمات لإنجاب الأطفال لهم في طقوس اغتصاب منظمة ومقننة دينياً.
هذه الصورة القاتمة التي يرسمها المسلسل تجد صدى مؤلماً لها في تجارب نساء حقيقيات في الدول الدينية في عالمنا المعاصر، من السعودية (قبل انفتاحها الأخير) مروراً بأفغانستان، وصولاً إلى الكارثة الأحدث: سوريا الجديدة.
إمارات التطرف: قهر الجسد وتزييف الوعي
فلسفياً، يصور العمل سيناريو شديد الشبه بالواقع لتحول السلطة المغلفة بالدين المتطرف إلى أداة لفرض سيطرة الذكور على النساء، عبر تجريدهن من الحقوق وتحويلهن إلى ممتلكات.
تُختزل قيمة المرأة في قدرتها على الإنجاب، وتصبح الخصوبة سلعة سياسية تتعلق بمصالح النظام الأيديولوجية. ويلتقط العمل بذكاء تزامن هذا الانقلاب الرجعي مع سعي منظم لتغيير المصطلحات وإعادة صياغة اللغة الرسمية في جلعاد لفرض الواقع الجديد وتزييف الوعي باستغلال الخطاب الديني لتبرير القهر بغطاء من «القيم» و«الأخلاقيات» و«النصوص المقدسة»، فيما لا يتبقى لدى المهزومين سوى التشبث بالذكريات والحب والهوية السابقة كأدوات مقاومة صامتة ضد محو الذات، حتى لو كانت فرص التغيير في المدى المنظور معدومة.
لغة الصورة… جماليات الكابوس
بعيداً عن مضمونه الفكري والسياسي الصادم، يمثل مسلسل «حكاية سبيّة» تحفة فنية متكاملة. نجح فريق العمل في خلق عالم ديستوبي متماسك بصرياً ونفسياً، يأسر ويخنق في آن، تتكامل فيه القصة المروعة (المأخوذة عن رواية بالاسم نفسه لمارغريت أتوود صدرت عام 1985)، مع الطريقة التي تُروى بها القصة، فتتناغم كل مكونات العمل الفنية من التصوير السينمائي إلى أداء الممثلين، لتخدم غاية تجسيد كابوس شديد الواقعية وجعله ملموساً ومقنعاً.
تجلى إبداع فريق العمل في استخدامه الذكي للألوان كرمزية بصرية ناطقة؛ حيث الأحمر القاني لأردية السبايا لا يمثل الخصوبة والدم فحسب، بل العار والخطيئة والعنف والسجن المتحرك الذي يعشن فيه، مقابل اللون الأزرق المخضر لملابس زوجات التنظيم الحاكم كرمز للعقم والبرود والغيرة المكتومة. هذا التباين اللوني الحاد خلق لغة خاصة بالمسلسل تعمق حضور التقسيم الطبقي الصارم في جلعاد.
يقدم المصور السينمائي كولين واتكينسون في «حكاية سبية» فناً لا ينسى في استخدام اللقطات القريبة والمقربة جداً على وجه بطلة المسلسل جون أوزبورن (تؤدي الشخصية إليزابيث موس)، محولاً وجهها إلى ساحة للمعركة الدائرة بين المضطهِد والمضطهَد، نقرأ فيها كل مشاعر التحدي والخوف والغضب والأمل التي تعجز عن نطقها.
هذه اللقطات الخانقة تورط المشاهد شريكاً في تجرع قهر السبية الصامت، وتغوص به في أعماق أوضاعها النفسية المعقدة. على صعيد أداء الممثلين، فإن ما تقدمه إليزابيث موس في دور جون هو درس في التمثيل التعبيري. قدرة هذه الممثلة على نقل كم هائل من المشاعر المتناقضة عبر نظرة أو تشنج عضلة في وجهها هو أمر استثنائي، وهي تحمل المسلسل على كتفيها، وتنجح في جعلنا نتعاطف معها ونغضب من أجلها، حتى في اللحظات التي تتخذ فيها قرارات مثيرة للجدل.
لكن عبقرية المسلسل لا تتوقف عند بطلته، بل تمتد لتشمل طاقماً تمثيلياً متناغماً وقوياً. تقدم إيفون ستراهوفسكي أداءً ممتازاً في دور سيرينا جوي، الزوجة التي شاركت في هندسة النظام القمعي لتجد نفسها سجينة فيه، فتجسد التناقضات المروعة للشخصية، وتظهر ببراعة مزيج القسوة الباردة والهشاشة المؤلمة في المشهد ذاته، ما يجعل سيرينا واحدة من أكثر الشخصيات التلفزيونية تعقيداً وكراهية ومأساوية في آن.
كذلك، لا يمكن إغفال الأداء الأسطوري للممثلة آن دود في دور العمة ليديا، التي تجسد الشر المطلق المغلف بحب أمومي مشوه. تنجح دود في أن تكون مرعبة ومثيرة للشفقة في الوقت نفسه، فهي ليست مجرد جلادة، بل هي مؤمنة حقيقية برسالتها، وهذا ما يجعلها أكثر خطورة.
إن كفاءة فريق العمل، من الكتابة التي توسعت بذكاء عن الرواية الأصلية واستكشفت عوالم لم تتطرق إليها أتوود، إلى الإخراج الذي يحافظ على إيقاع متوتر وبناء تدريجي للرعب، كلها عناصر تتضافر لتجعل من «حكاية سبيّة» تجربة مشاهدة ثقيلة على النفس، ولكنها ضرورية ومتقنة فنياً إلى أبعد الحدود، ولا تنسى.
جلعاد… ثمن التخلي
لقد وصلت قصة جون إلى نهايتها التلفزيونية المحتمة، غير أن ثيمة المسلسل ستظل حية في وجدان ملايين النساء عبر الشرق اللواتي شاءت الأقدار – وتآمر الإمبرياليات – لهن العيش تحت ثيوقراطيات دينية… جلعادات معاصرة، في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين.
لعل صورة جون في ردائها الأحمر ستكون نذيراً للأجيال الجديدة، أقله في ظل ما تتيحه أدوات المعرفة البصرية المتوافرة لها، بأن حقوق المرأة ليست مكتسبات أبدية، بل ثمار نضالات مريرة وممتدة، وأن التفريط بالدولة الوطنية والانجرار إلى فوضى «الإمبرياليات الخلّاقة» يفتح الطريق أمام أبشع أشكال القمع البنيوي المتوحش للنساء، ومسار حتمي نحو جلعاد جديدة.
* The Handmaid’s Tale على HBO
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار